يعد التسول إحدى كبرى المشكلات التي تعانيها الدول سواء الدول المتقدمة أو الدول النامية، وتختلف من بلد لآخر، وهذه المشكلة انتشرت في الآونة الأخيرة في السعودية وأصبحت ظاهرة تجوب المناطق باختلاف نسبها، فقد تحولت من سلوك فردي مختصر على أشخاص كانت الظروف أقوى منهم إلى ظاهرة تديرها عصابات كبيرة لها فروع بمناطق عدة سواء داخل السعودية أو خارجها باعتبارها بيئة خصبة للتسول ساعدت على انتشارها ثقافة المواطنين الذين تأخذهم الرحمة والرأفة بالمتسولين الذين تبلغ نسبة الأجانب فيهم 99 في المائة داخل السعودية، أغلبهم من الأطفال وكبار السن والنساء، وينتمون إلى جنسيات متفرقة، ويتم تهريبهم إلى داخل البلاد.
وتعتبر ظاهرة التسول رغم البحوث والاستراتيجيات المقدمة، من أكثر الظواهر انتشارا، خاصة في المواسم الدينية كرمضان والحج التي تتضاعف فيها أعداد المتسولين إلى أكثر من الضعف، وأغلبهم أطفال عادة يجهلون هذا المصير.
وأرجع بعض الاستشاريين والمختصين انتشار تلك الظاهرة وكثرة ممتهنيها إلى تزايد معدلات الفقر في بعض الدول التي عانت اضطرابات سياسية، أو الأخرى التي تعاني المجاعة، وينظمها أشخاص باستغلال الظروف والفقر الذي تعيشه بعض الأسر في تلك الدول، واستغلال الأطفال والنساء وكبار السن للعمل بالتسول.
حيل ومواسم
لم يعد التسول مختصرًا على أماكن وأوقات محدودة، بل أصبح يدار في المواسم ولكل موسم طرقه وأماكن وجوده، فمع قرب الحج والعمرة يكثر المتسولون في مكة المكرمة ومحافظة جدة وفي المنافذ كذلك يستدرجون عطف الزوار، أما بقرب دخول شهر رمضان فتشهد مناطق المملكة انتعاشًا كبيرًا للمتسولين بمختلف الأماكن، سواء الأسواق أو الشوارع أو المساجد وحلقات الذكر، حيث يتم تقسيم الأعمال بطريقة معينة يكون فيها كبار السن عند المساجد وبين المصلين والنساء في الأسواق وعند الإشارات، والأطفال ينتشرون في مختلف الأماكن، وفي أثناء فترة الإجازات الصيفية يستغلون الأماكن الترفيهية والواجهات البحرية والكورنيش في المناطق الساحلية.
ومع كل موسم جديد تظهر حيل جديدة لاستدراج الناس وإبعاد الشبهات عن المتسولين، فهناك من يدعي أنه غريب عن المنطقة، وفَقَدَ كل ما يملك ويريد المال للعودة من حيث أتى، كما أن هناك من يدعي أنه مصاب بأمراض معقدة، ويحمل وصفات لعلاج أمراض خبيثة ومستعصية، فيما يدعي البعض فقد أهله في الحروب، وحيل أخرى يربطونها بالإعاقة الجسدية.
استغلال حاجة الأسر
يعمل المتسولون الخاضعون لعصابات وفق مجموعات بخطط معينة، حيث يتم تعيين مسؤول عن كل مجموعة لمراقبتهم عند التقاعس عن العمل وحمايتهم من التعرض للأذى والضرب أو الشتم ومراقبة الوضع العام في المنطقة، خاصة فيما يخص حملات المكافحة، فعند تعرض أي فرد لمشكلة ما يصدر إشارة ليتجمع العديد من أماكن مختلفة لمساعدته وإخراجه من الوضع بأي شكل تجنبا لاستدعاء الجهات الأمنية، ويعملون وفق ساعات معينة تحدد حسب وضع المنطقة وساعات الذروة وفي أماكن التجمعات والطرق المزدحمة لصعوبة القبض عليهم، لا يسمح بتجاوز أي مجموعة أو عصابة أماكن عمل عصابة أخرى، فكل جهة لها منطقة معينة.
طفل ضحية
لم يكن عبد الله ذو التسع سنوات الذي التقته "الاقتصادية" يعلم أنه يعمل في مهنة يرفضها واقعه، فبعد أن رسم أحد الأشخاص له ولأسرته فرصة لتحقيق حياة كريمة بالعمل خارج المنطقة لينهض بأسرته الضعيفة ماديا، الواقعة في أحد أعالي الجبال باليمن، يجد نفسه خارج دولته وفي دولة أخرى، يعمل وفق أوامر تجبره على العمل تحت حرارة الشمس متنقلاً بين السيارات بغرض الحصول على ما تيسر من الأموال، ويستمر عمله 10 ساعات متواصلة وبأماكن مختلفة.
يقول عبد الله إن المال لم يكن غايته، وأنه يخشى من المصير الذي يلقاه عند عدم قدرته على جمع المال المطلوب، فرغم المال الذي كان بحوزته ويقدر بـ400 ريال عند التقاء الاقتصادية به، إلا أنه لا يعرف قيمته كما يقول، وأنه سيقدمه للمسؤول عن إحضاره من بلاده كما هو حال الآخرين من مجموعة الأطفال القابعين في أماكن مختلفة ويعملون لأشخاص مجهولين بالنسبة لهم مقابل توفير ما يقتاتون منه ليومهم.
بكى عبد الله عندما تذكر والدته التي كانت تربط آمالها به ليكون العون لها ولإخوته، وتذكر كيف استغل الرجل حاجة أسرته وظل يرسم لهم أحلاما وردية مقابل مبلغ مالي يقدم لأسرته، ليكتشف عبد الله بعد رحلة العذاب والسير أسبوع على الأقدام لدخول المملكة بطرق غير شرعية أنه ضحية مثل عدد من الأطفال الذين خطفوا من أهاليهم وآخرون رسمت لهم حياة جميلة يحلمون بها على عكس الواقع الذي عاشوه.
الأطفال والنساء
أكثر من 90 في المائة من المتسولين هم من الأطفال والنساء كبيرات السن، حيث يتم إجبار الأطفال على الظهور بمظهر معين مثل الوقوف تحت حرارة الشمس وقت الذروة في الشوارع دون أحذية، وذلك لاستعطاف الناس معرضين أنفسهم للعقاب بمجرد التهاون أو التساهل بهذه الأمور، وعدم استطاعتهم تحمل البرد القارس وقت الشتاء لعدم تزويدهم بالملابس الكافية لاتقاء الأجواء الباردة؛ لأن في ذلك حيلا ووسائل لاستدراج الناس ليمنحوهم المال، ومطالبتهم بالإصرار على المواطنين للحصول على المال بالبكاء أو الدعاء، أما النساء "المتسولات" فيستخدمن أساليب وطرقا معينة للحصول على الأموال من مختلف الناس في المواقع التي يكنَّ موجودين فيها، مع سرد الكثير من الشكاوى والهموم وذرف والدموع.
التسول والإجرام
أشار أيمن سلامة– إخصائي نفسي واجتماعي– إلى الانعكاسات السلبية والسلوكية على المتسولين خاصة الأطفال، حيث المتسول الصغير يتحول إلى مجرم عند الكبر، فالطفل المتسول عند قضاء أغلب وقته في ذلك العمل والمجتمع المحيط به يهتم اهتماما كبيرا بالمال، يصبح المال من أساسيات الحياة لديه وهدف رئيسي للحياة يعمل على الحصول عليه بأي طريقة كانت، ولا يهتم بالعواقب والطرق، فمع بلوغ الطفل تتقلص فرص التسول لديه واستعطاف الناس للحصول على المال، فلا يقبل العمل مع نظرته للمبالغ المالية المقدمة من الوظائف على أنها غير كافية وغير مجدية ليبدأ التوجه للحصول على المال بأي طريقة كانت، سواء بالسرقة أو أعمال أخرى تؤدي إلى ارتكاب الجرائم في نهاية الأمر.
انتشار الظاهرة
ترى الدكتورة سهيلة زين العابدين عضوة المجلس التنفيذي ولجنة الدراسات والاستشارات بجمعية حقوق الإنسان، أن التسول أصبح ظاهرة في المملكة تنتشر في كثير من المناطق باختلاف النسب، حيث تنشط في المدن الرئيسة والأماكن المزدحمة بشكل كبير عن المحافظات الصغيرة، وقالت: "من المفترض ألا يوجد لدينا متسولون، خاصة أننا نتمتع بفوائض مالية عالية تحقق حياة كريمة لكل مواطن ومقيم".
وأبانت زين العابدين أن المسببات الفعلية للتسول تنحصر في سببين، هما الفقر والحاجة الفعلية للمال للعيش، والسبب الثاني هو وجود عصابات مافيا محلية ودولية تعمل على خطف الأطفال واستغلال كبار السن وإغرائهم بالمال المكتسب، خاصة أن السعودية تعد بيئة خصبة لهم.
مضيفةً أن التسول أصبح من أكبر الانتهاكات التي تمارس على الأطفال باستغلالهم، وتعتبر جريمة لا بد أن تنفذ فيها أقصى العقوبات الرادعة لمثل هذة السلوكيات، موضحة أن الاستراتيجية المعمول بها للقبض على المتسولين حاليًا غير مجدية، خاصة أن مثل هذه الظواهر تحتاج إلى مكافحة من الجذور ومعالجتها للقضاء عليها، وقالت: "مع الأسف رغم الجهود المبذولة للقبض على المتسولين إلا أنهم ما زالوا موجودين، والأشخاص هم نفس الأشخاص".
وحول كيفية القضاء على هذه الظواهر، قالت زين العابدين إنه لا بد من معالجة الظاهرة من الجذور، فالطرق المتبعة بالقبض على المتسولين وفرز السعوديين والأجانب ليست حلولا دائمة، وهي غير مجدية للقضاء على تلك المشكلة، فلا بد من فرض عقوبات صارمة وقوية على العصابات التي نشطت في خطف الأطفال وكبار السن واستغلالهم بمعاقبتهم بالسجن لفترات طويلة، وفرض غرامات مالية عالية، وترحيلهم فور انتهاء محكوميتهم بالنسبة للأجانب، ولكن فيما يخص السعوديين والمقيمين إقامة نظامية لا بد من دراسة أوضاعهم ومعرفة مسببات التسول ومعرفة الأسرة إن كانت تحتوي على من يستطيع إعالتها بالقيام بتأهيله وتدريبه وتوفير فرص عمل له للنهوض بأسرته والأشخاص الذين يعولهم، وفيما يخص المقيم إقامة دائمة ومن يعاملون معاملة السعوديين فهم أبناء فعليون لهذا البلد، حيث يجب الاستفادة منهم وإخضاعهم لنفس البرامج التي يخضع لها السعوديون في وزارة الشؤون الاجتماعية ونفس الإعانات المقدمة لهم، والاستفادة من المقيمين في المملكة، خاصة من فقدوا المعيل الأساسي لهم، لذلك لا بد من تأهيل المقيم الأجنبي أسوة بالسعودي، وتقديم يد العون لهم من قبل وزارة الشؤون الاجتماعية خاصة فيما يخص الأسر التي لا يستطيع المعيل التكفل بإعالة أفرادها، وترك المجال لأفراد الأسرة بالعمل بعد تدريبهم وتأهيلهم بالبرامج التي تقدمها وزارة الشؤون الاجتماعية، مضيفة بالقول: "إن تزايد ضغوط العمل على الأجانب المقيمين إقامة دائمة ومن ليست لهم بلدان أخرى يدفعهم إلى التوجه لسلوك غير حضاري مثل التسول أو ارتكاب الجرائم".
8 جهات حكومية
وعن مكافحة تلك الظاهرة، أشار سعد الشهراني مدير مكافحة التسول في منطقة مكة المكرمة إلى بدء تكثيف حملات مكافحة التسول خلال المواسم التي تضاعف وينشط بها التسول، حيث تشترك ثماني جهات حكومية في ذلك، تترأسها الشرطة والمرور ومكافحة التسول وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمجاهدون، وسيكون العمل في فترات صباحية ومسائية عبر تنسيق مسبق من خلال خطط أعدتها الشرطة وتوزع للجهات المعنية، خاصة مع اقتراب شهر رمضان المبارك الذي تتزايد فيه أعداد المتسولين إلى أكثر من الضعف خاصة بأماكن تجمعات الناس في المراكز والمساجد، فلجان التحري السرية تسعى إلى مكافحة التسول مكافحة جذرية، وتعليمات وزارة الداخلية أشارت إلى أن التسول جريمة لا بد من القضاء عليها من جميع الجهات الأمنية.
وأرجع الشهراني انخفاض أعداد المتسولين منذ مطلع شعبان إلى الحملات المكثفة التي تقوم بها الجهات الأمنية، إضافة إلى الخطط الحديثة التي تهدف إلى القضاء على الظاهرة من جذورها بمراقبهم ومتابعتهم لمداهمة أوكار تجمع المتسولين.
لافتًا إلى أن التسول ظاهرة مكتسبة من بعض الدول، حيث إن 99 من المتسولين في مختلف أنحاء المملكة هم أجانب من جنسيات مختلفة يتخفون بملابس مواطنين، ولا تتجاوز نسبة السعوديين 1 في المائة من مجمل المتسولين، حيث تعمل وزارة الشؤون على بحث ظروف المواطنين ومسبباتها ومساعدتهم بتوفير مصدر رزق لهم أو تأهيلهم لوظائف.
مشيرًا إلى أن النساء أكثر الداعمين للمتسولين، حيث تأخذهن الرحمة بدفع المبالغ المالية لهم، مبينًا أنه ليس كل متسول محتاجا، فهناك عصابات تدير جماعات كبيرة من الأطفال والنساء وكبار السن لاستغلالهم للتسول، لذلك تم إيجاد منافذ خيرية كبيرة للصدقة والتبرع تتكفل بإيصال المبالغ المالية والمساعدات لأشخاص مستحقين لها.
خفض المعدلات
أوضح الملازم أول نواف البوق الناطق الإعلامي لشرطة جدة المكلف، أن الجهات الأمنية متمثلة في الشرطة والجهات الأمنية الأخرى تعمل على تغيير خططها لمكافحة التسول والسعي لمعالجتها من الجذور، حيث منعت القبض المباشر على المتسولين بالشوارع والمراكز نتيجة للحوادث المترتبة على ذلك، إضافة إلى عدم معالجة الظاهرة من جذورها، فمن يتم القبض عليه سرعان ما يتم ضخ متسول جديد للمنطقة بدلا عنه، وقال: "لذلك عمدنا إلى القضاء على الظاهرة من جذورها، حيث انتهجت الخطة على متابعة ومراقبة المتسولين بالأماكن لمدة تتراوح ما بين 24 ساعة و48 ساعة بغرض معرفة أوكارهم ومداهمتها عند تجمعهم، فقد استطاعت الحملات مداهمة الأوكار التي عادة ما تكون في أماكن شعبية، وتم خفض معدلات التسول إلى حد كبير، كما جرى العمل على خفض الخسائر الناتجة والمترتبة على حملات القبض المباشر على المتسولين بالشوارع والمراكز من حوادث الدهس عند هربهم أو إعاقة الحركة المرورية.
مشيرًا إلى القبض على أعداد من المتسولين في أوكار تجمعاتهم، وكانت لذلك نتائج إيجابية خاصة أن هذه الجماعات تتكون من عائلات وأطفال وكبار سن يتم القبض عليهم وفرزهم بتوجيه الأجانب إلى إدارة الوافدين والنساء والأطفال بدار الإيواء، ومصادرة الأموال التي يتم جمعها والتي لا يعرف لأي الجهات تصدر، وقال: "إنه مع كل مداهمة عادة يتم القبض على مبالغ مالية كبيرة تكفيهم حاجة السؤال تكون مخبأة بالوكر، وجماعات أخرى تحرص على تحويل الأموال بشكل فوري وبطرق غير شرعية لا تعرف جهتها".
وقال البوق: "إن التسول بات ظاهرة تتلاشى وتعود مجددا فرغم الجهود التي تبذلها الجهات الأمنية للقضاء على التسول، إلا أنه سرعان ما يعاود الانتشار، حيث تعتبر المملكة بيئة خصبة للمتسولين خاصة في المواسم وفي محافظات معينة، يتم اختيار أماكن تجمعات الناس خاصة من الطبقات المرفهة مثل المراكز والمنازل والشوارع والمساجد وأماكن تجمع الناس، مبينًا أن المواطن شريك في انتشار هذه الظاهرة بمنحه المال للمتسولين على الفور، رغم وفرة الجمعيات الخيرية التي تستقطب التبرعات والحسابات الجارية المعروفة المصدر والأهداف.
عقوبات رادعة
الدكتور بدر باجابر أمين عام لجنة الاتجار بالبشر، أوضح أن التسول سلوك غير مقبول بكل أنواعه وبجميع مسبباته، والظاهرة المتفشية في المملكة يصاحبها لبس وعدم قدرة على التفرقة بين المتسولين، فهناك متسول لذاته وهي تعد ممارسة خاطئة، ولكن ليست جريمة جنائية توجد لها أنظمة عقاب معينة وتكون ناتجة من فقر حقيقي أو حاجة ملحة، أما التسول ضمن إطار الاتجار بالبشر فهو نوع من الاستغلال للنساء وكبار السن والأطفال من قبل مجموعات وعصابات، وأولئك المتسولون يعتبرون ضحايا لعصابات ومجرمي الاتجار بالبشر، وهم من يستحقون أن يفرض عليهم العقاب الصارم، فعقوباتهم تصل إلى 15 سنة وغرامات مالية تصل لمليون ريال إضافة إلى تنسيق دولي للجرائم الدولية التي تكون ممتدة عبر دول أخرى، قائلًا: "إن الأجهزة الأمنية في السعودية لا تستطيع التمييز بين المتسول الضعيف بداعي الفقر، وبين من كان ضحية للعصابات والمتاجرين بالبشر".
وأوضح أن لجنة الاتجار بالبشر منذ انطلاقها بعد المرسوم الملكي عام 1431هـ شكلت اللجنة وأصبحت ممثلة في أغلب الجهات الأمنية مثل العدل والتجارة والعمل ومكافحة التسول وكذلك الجهات الأمنية والمعنية، وقد عملت اللجنة منذ انطلاقها على تنظيم دورات وورش عمل للجهات الأمنية لتوضيح الصورة بين المتسول الفعلي وبين ضحية التسول بمختلف مناطق المملكة.