لم يفاخر العرب قبل الإسلام في شيء بقدر فخرهم بسلامة نسبهم ورفعة حسبهم حتى أن الرجل منهم يقطع المسافات والدروب ويخوض غمار المعارك والحروب؛ لا لدرهمٍ أو دينار، بل حفاظاً على النسب وذوداً عن جميل الحسب الذي عُرف به آباؤه وأجداده من قبل، ولأن الحسب في مفهوم العرب مصطلح يقتضي جُملة من الأفعال والخصال الحميدة تعبّر في مجملها عن مكارم الأخلاق وعظيم المروءات كالصدق والكرم والشجاعة والإحسان إلى الضعيف، وإغاثة الملهوف وحفظ الجوار والوفاء بالعهود ونجدة ونصرة المظلوم وهي وغيرها من محاسن الأخلاق وكمال المروءات من الخصال النبيلة التي أقرها الإسلام ودعى إلى صدق التمسك بها تقرباً إلى الله سبحانه بعيداً عن الرياء وطلب السمعة؛ حتى أنه عليه الصلاة والسلام عفا عن "سفانة بنت حاتم الطائي" حين سمعها تصف أفعال والدها، وهي تقول: "يا محمد هلك الوالد، وغاب الوافد، فإن رأيت أن تخلي عني ولا تشمت بي أحياء العرب فإن أبي كان سيد قومٍ، يفك العاني، ويقتل الجاني، ويحفظ الجار، ويحمي الذمار، وما أتاه أحد في حاجةٍ فرده خائباً، أنا ابنة حاتم الطائي"، فقال لها عليه الصلاة والسلام: "يا جارية هذه صفات المؤمنين حقاً، لو كان أبوك مسلماً لترحمنا عليه"، ثم التفت إلى صحبه، وقال: "خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق"، ولم تذكر سفانة اسم والدها أولاً بل ذكرته في آخر حديثها، وهي تدلل بهذا على أن الأعمال ترفع شأن صاحبها، كما قال شوقي:

دقات قلب المرء قائلة له

أن الحياة دقائق وثوان

فارفع لنفسك بعد الموت ذكرها

فالموت للإنسان عمر ثاني

كانت الأحساب والأفعال الجميلة رمز تفاخر العرب كما هي أنسابهم؛ فكانت بطون قريش -مثلاً- تتسابق في الرفاد والسقاية وخدمة الحجيج، كما كانت قبائل وأحياء العرب تنهض وتسمو بسمعتها نظير مكرمة من مكارمها أو مكارم أحد أبنائها، ولا أدل على ذلك إلا شجاعة عمرو بن معد يكرب ووفاء السمؤل وكرم حاتم طيء وحلم الأحنف بل وشجاعة عنترة رغم كونه ابن أمة سوداء.

مصادر الحفظ

كانت الأنساب عند العرب محفوظة في صدور الرجال، وكان لكل قوم نسابة يحفظ لقبيلة الأصول والفروع وحتى الحواشي، كما يحفظ العهود والمواثيق والأخلاق مع القبائل الأخرى، كما كان لها شاعرٌ يفاخر بنسبها وعلو حسبها، ناهيك عن خطيبها المفوّه، إذ عرف عن قبائل العرب حين وفودها على بعضها البعض مراسم وبروتوكولات تتجلى بانتخاب شاعر من هذه القبيلة وتلك للترحيب ببعضها والتفاخر فيما بينها، كما ينتخب من كلتا القبيلتين خطيب مفوه يؤدي ذات المهمة، كما كان على الشاعر وحتى الخطيب أن يحيط بموجبات أصالة نسبه ورفعة حسبه، كما عليه أن يعرف رجالات قومه وما اختزلته ذاكرة بني عمه عن أمجاد أجدادهم ومحاسن سلفهم.

كان الشعر إحدى أدوات حفظ النسب، وكانت مجالس شيوخ القوم وكبار السن إحدى مدارس النسب التي عنى العرب بحفظها ونقلها من السلف إلى الخلف، كما أن ثمة مصدراً آخر من مصادر حفظ الأنساب يتجلى في "راوية الحي" وهو ذلك الرجل الإخباري الذي ستسمع في مجلسه جملاً من الأخبار والمغازي بمنقولاتها وتعدد رواياتها، وربما يسردها هذا الإخباري بأسانيد متعددة وروايات متواترة لتتكامل مع ما رواه "نسّابة الحي"؛ لتظهر بحلتها البهية كأنما تغنيك عن جملة من الأسفار والكتب. كان مصدر التلقي والتقصي في جمع وتحليل المعلومة ظاهرة من مظاهر علم الأنساب لدى العرب في الجاهلية، وعليه لم يعرف عنهم في تلك الفترة أنهم دونوا أنسابهم في بطون الكتب، بل لم يعرف عن العرب حينها تدوين المعلومة أياً كانت ولذا فقد وسعت صدورهم ما لم تسمعه كتبهم ودواوينهم، لاسيما وأن التدوين في علم الأنساب عُرف بعد انتشار رسالة الإسلام ومخالطة العرب الأعراق والأقوام الأخرى لاسيما في القرنين الثاني والثالث الهجريين الذي برز فيهما "محمد بن السائب الكلبي" وابنه "هشام وأبي محمد الحسن بن أحمد الهمداني"، وهما أشهر من كتب في علم الأنساب في القرن الثاني والثالث وبداية الرابع من الهجرة، بل إنهما كانا كما دغفل بن حنظلة وعبيد بن شرية الجرهمي اللذان يضرب بهما المثل في معرفة الأنساب أبان في القرن الأول الهجري، كما كان الصحابي الجليل أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- من أشهر علماء النسب من الصحابة رضوان الله عليهم.

تعصب وإقصاء

لم يسلم العرب في جاهليتهم وحتى في بعض أحيائهم بعد انتشار رسالة الإسلام من التطرف العنصري والعصبية القبلية أو القومية المقيتة، فقد روي أن أحد النساك على جلالة قدرة وورعة كان يقول: "اللهم أغفر للعرب خاصة وللموالي عامة"، وعُرف عن أحدهم تعصبه لعنصره العربي وقد صلى ذات مرة خلف أحد الموالي فسئل عن ذلك فقال: إنما أردت أن أتواضع لله في تقديمه، بل إن الأمير العباسي عيسى بن موسى كاد يستشيط عضباً حين أُخبر أن معظم علماء البقاع والأقاليم هم من الموالي وما هدئ وانفرجت أساريره، إلاّ حين ذكروا له جملة من علماء العرب، وكان عبدالله بن إسحاق قد عاب بيتاً من أبيات الشاعر الفرزدق فلما علم به هذا الأخير قال على الفور بيته الشهير:

فلو كان عبدالله مولى هجوته

ولكن عبدالله مولى مواليا

وكان أبناء قبيلة أنف الناقة على علو كعبهم وأصالة نسبهم يتحاشون ذكر مسمى قبيلتهم حتى ورد عليهم الشاعر الحطيئة، وقال يمدحهم:

قومٌ هم الأنف والأذناب غيرهم

ومن يساوي بأنف الناقة الذنبا

فعاد أبناء "أنف الناقة" يفاخرون العرب بمسماهم كما يفاخرونهم بأصالة نسبهم ورفعة حسبهم وهم فرع من إحدى أشهر القبائل العربية.

بل كان بعض جهال العرب لا ينادون الموالي بالكنى، وإنما بأسمائهم المجردة أو بألقابٍ هي أشبه بما نسميه الآن (العيارة)، كما لا يأكلون معهم وإن اضطروا إلى ذلك لكبر سن أحدهم أو لجلالة قدره في العلم؛ فإنهم يرضون ببقائه في طرف السفرة، بل كان أحدهم كلما مرت عليه جنازة يسأل عنها فإن عرف أنه من قبيلة قال: "واقوماه"، وإن قيل إنه عربي قال: "وامادتاه"، وإن قيل إنه مولى قال: "اللهم إنهم عبيدك تأخذ منهم من تشاء وتدع من تشاء".

أخوة الإسلام

لم تكن هذه السلوكيات منتشرة إلى حد كبير إلاّ أن أمر نفيها قطعياً يعد تزويراً في تاريخ العرب؛ رغم أنها كانت محدودة في عقول بعض من تطبعوا ببعض طباع الجاهلية؛ ناهيك أن رسالة الإسلام رفعت مكانة "بلال الحبشي" حتى صعد على ظهر الكعبة المشرفة بأمر من المصطفى عليه الصلاة والسلام لا لشيء إلاّ ليؤذن بالناس يوم فتح مكة، وحينها كان بعض أشراف قريش وصناديدها يطأطئون رؤوسهم ويستجيبوا لنداء الحق الذي جاء به صفوة خلق الله، حيث ناداه صناديد قريش حينها ب "أخ كريم وابن أخ كريم"، وهو المعروف بأنه خير بني البشر وأشرف العرب نسباً وأرفعهم حسباً ومع هذا كان عليه الصلاة والسلام يقول: "الناس سواسية كأسنان المشط"، بل حذّر عليه الصلاة والسلام من التفاخر بالنسب والحسب والتقليل من الآخر في قوله: "أربع من أمر الجاهلية لا يتركوهن الطعن بالأنساب، والفخر بالأحساب، والنياحة على الميت، والاستسقاء بالنجوم"، كما قال عليه الصلاة والسلام: "من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه"، كما حدد عليه الصلاة والسلام حفظ النسب بصلة الأرحام فقال: "تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم".

شهادة التاريخ

ويشهد تاريخ المسلمين أن الموالي من غير العرب كانوا صنوان بني إسماعيل في خدمة رسالة الإسلام فعلماء الأمة ورواة الأحاديث والحفاظ وكبار المفسرين كانوا من غير العرب، كما كان فحول الشعراء في القرن الثاني والثالث هم من الفرس والروم، ولا أدل على ذلك إلاّ أبو نواس وأبو العتاهية وابن الرومي وبشار بن برد، كما لم يجابه الشعوبية أحد كما جابهها الجاحظ وهو في عرف العرب من الموالي، كما كان عراب النحو بل شيخ النحاة "سيبويه" ومن تلاه "ابن جني" وعلماء العلوم الطبيعة كالبيروني والخوارزمي و"ابن مسكويه" من غير العرب، بل كان قادة أشهر معارك الإسلام بعد القرن الأول حطين بقيادة الكردي صلاح الدين الأيوبي، و"ملاذكرد" بقيادة التركي ألب أرسلان، وعين جالوت بقيادة أبناء الكرج سيف الدين قطز والظاهر بيبرس، كما كان محمد الفاتح تركياً وهذا بالطبع لا يقلل من شأن العرب الذين نشروا مشاعل الإسلام إلى أرجاء المعمورة، بل إن ذلك مصداقاً لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).

البصمة الوراثية

في زمننا هذا ما زالت مصادر حفظ الأنساب التي عرفها العرب منذ القدم محتفظة بمكانتها وعلو كعبها على ما سواها من المصادر، إذ بقيت صدور الرجال وذاكرة النسابة والرواة مرجعاً رئيساً في مراجع الأنساب والأصول، كما احتفظ القصيد والشعر بمكانته السامقة في هذا المجال، ناهيك عن ما دونه الأسلاف من أساطين علماء النسب، يضاف إليه مؤخراً ما يتداوله المؤرخون والمعنيون بحفظ المكتوبات والوثائق من المحفوظات الموثقة، والتي تدل إلى بعض الحقائق التي يستند عليها المؤرخون بمعية شيوخ القبائل والنسابة، والأدهى من ذلك ما لوحظ مؤخراً من انتشار ما يسمى "صكوك إثبات النسب" التي يعمد إليها البعض لإقامة الحجة بإثبات نسبه، كما قد انتشر في زماننا هذا ظهور ما يسمى "شجرة الأسرة"، وهي عبارة عن توثيق مؤرخ لأسر عديدة تعود في نسبها إلى جد واحد وقبيلة بعينها، إلى جانب المبايعات القديمة، وبيوت الأوقاف. ولأن التقنية والطفرة الجينية في علم الطب كفيلة بإظهار العجائب فقد تفشى في العقدين الأخيرين لدى بعض الأسر ظاهرة اكتشاف النسب عن طريق البصمة الوراثية وتحيل الحمض النووي (DNA)؛ مما زاد من مطالبة البعض باتخاذ موقف واضح جراء هذا الكشف الذي ينأى الأطباء بأنفسهم عن نتائجه ولا يقر به كثير من علماء النسب، كما يثبت المجمع الفقهي الإسلامي عدم جواز استخدامه بقصد التأكد من صحة الأنساب الثابتة شرعاً، كما لا يجوز بأي حال من الأحوال تقديمها على النصوص والقواعد الشرعية.