لم يكن يتوقع السعوديون عشية يوم السبت 4 نوفمبر من العام الفائت، أن يأتي خبر يزاحم اعتراض صاروخ حوثي بصناعة إيرانية على العاصمة الرياض، إلا أن المفاجأة التي استحوذت على مجالس المواطنين وأجهزة جوالاتهم جاءت قوية بتشكيل لجنة عليا لمكافحة قضايا الفساد في المال العام.

فكيف بدأت الحكاية؟

 

المفاجأة
صدر الأمر الملكي الذي وجه به خادم الحرمين الملك سلمان بن عبدالعزيز بتشكيل لجنة عليا تختص بقضايا الفساد في المال العام، يترأسها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، في حدود الساعة الـ9:30 مساء، بعد مدة محدودة من تأكيد اعتراض الصاروخ الباليستي، وجاء الأمر الملكي متزامنا مع أنباء متواترة عن ضبط أمراء ومسؤولين كبار في الدولة، وامتلأت منصات التواصل الاجتماعي والمجالس الخاصة بضجيج وحراك وتخمين وتسريب لوائح بالأسماء غير المعلنة.

 

التهم.. ودخول النيابة العامة على الخط
تنوعت التهم بين صفقات سلاح غير نظامية، وغسل أموال، وإبرام صفقات وهمية وترسية عقود على شركات تابعة للمضبوطين، وأجّلت الأخبار المتلاحقة نوم الكثيرين واستنفدت كذلك صباحات الغد (الأحد) بعد العودة إلى الدوامات، إلى أن خرج أول توضيح من النيابة العامة في بيان رسمي أصدره الشيخ سعود المعجب.

قالت النيابة إن الموقوفين لن يتلقوا معاملة خاصة عن غيرهم بسبب مناصبهم السابقة، في الوقت الذي ما زالت أسماء جديدة تتردد في منصات الأخبار، لتكشف وكالات عالمية في الغد أن الحسابات البنكية الموقفة تجاوزت أكثر من 1200 حساب، وأن رقم الموقوفين سيصل إلى المئات، ما دفع مؤسسة النقد ومجلس الشؤون الاقتصادية إلى إيضاح أن الحسابات المجمّدة لا تشمل الشركات، التي ستُمكّن من مواصلة أنشطتها كاملا لعدم الإضرار بها.

 

المبالغ
في ذلك الوقت، ما زالت الأرقام، والأخبار، والمصادرات، تأتي من كل جهة، أسماءٌ وأراضٍ ومزارعُ وقصورٌ ومليارات مسترَّدة وتسويات ضخمة، ولذا تدخلت النيابة العامة في توضيح آخر، كشفت فيه أن الموقوفين بلغوا 208 أشخاص، أُفرِج عن 7 منهم دون تهم، أما الأموال، فتبلغ 375 مليار رُصدت في ممارسات الفساد التي تورط فيها الموقوفون، مشددة على نقطة مهمة: لا كشف للأسماء حاليا، ليستمر التكهن.

 

 

الريتز كارلتون

بدأ اسم الفندق الشهير يتردد بكثرة، ويحوطه غموض يغري بالتكهنات، لدرجة أن مواطنين حرصوا على المرور به للتأكد، ورأوا بوابته الضخمة مغلقة، بينما تومض أضواء غرفه بقاطنيه الغامضين.

شبكة "بي بي سي" البريطانية كانت أول من نجح في الدخول رسميا للمكان، وكشفت في تقرير مصور: أمراء ومسؤولون، صودرت جوالاتهم، وسُمح لهم بخط هاتف عام مفتوح، ما يحدث لهم الآن "تحقيق ودي" قد يؤدي لتحقيق رسمي، جُلبوا في الـ4 من نوفمبر غاضبين، ومقتنعين بأن ما يحدث تهديد عابر، ليكتشفوا أن الأمر جدي.. لا يمكن كشف أوجههم أو أسمائهم، 95% منهم قرروا قبول التسوية وإعادة الأموال.

تقريرٌ إلحاقي مطول من "بي بي سي" كشف معلومات جديدة عن "مضبوطي الريتز": سبب اختيار الفندق أنه كان يُخشى هربهم، ولذا اختير هذا المكان إلى حين البت في التحقيق الودي، هنالك مركز صحي على مدار الساعة، وتوفير كامل لأدوية الموقوفين، مع إحجام عن تنفيذ الطلبات الغريبة، مثل طلب أحدهم "كافياراً روسياً"، أو طلب آخرين "مدلكيهم" الخاصين، أو حلاقيهم.

المسؤول الذي قابل المذيعة يمسك بفنجان قهوة، عليه نقشات بحواف ذهبية، ويرفعه أمامها قائلا: "تكلفته 10 دولارات، لكن مع الفساد يكلف 100 دولار"، ثم يسترسل ليعطي أمثلة لمدارس لم تكتمل، ومستشفيات كُلفت 375 مليون ريال، بينما التكلفة الحقيقية ثلث ذلك المبلغ، مؤكدا: "كل شخص هنا لدى النيابة ملف كامل عنه، وكل شيء موثق".

الجملة التي أضحكت محمد بن سلمان!
خرج ولي العهد ورئيس اللجنة المشكلة الأمير محمد بن سلمان في مقابلة مع صحفي "نيويورك تايمز" توماس فريدمان، ليرد على أقاويل بأن حركة مكافحة الفساد هذه محاولة لانتزاع السلطة، قائلا: "إنه لأمرٌ مضحك"، موضحا أن الأعضاء البارزين المحتجزين في "الريتز" قد أعلنوا مسبقاً بيعتهم له ودعمهم إصلاحاته، وأن الغالبية العُظمى من أفراد العائلة الحاكمة تقف في صفه.

وكشف قصة اللجنة، قائلا إن الملك وجّه بها في 2015، حيث ظلت تعمل لمدة عامين حتى جمعت المعلومات، ومن ثم جاءوا بحوالي 200 اسم، وعندها اتخذ النائب العام الإجراءات اللازمة.

وأكد أن 95% وافقوا فعلا على التسوية وإعادة الأموال فور اطلاعهم على الأدلة المقدمة ضدهم، وطلب 4% اللجوء إلى المحاكم، بينما بُرئ 1% من الموقوفين.

 

الموقوفون.. عفو أم تحقيق أم ماذا بالضبط؟
شرحت النيابة العامة، مع استمرار تردد أنباء الإفراج عن موقوفين، آلية التفاوض معهم، قائلة إنها تتكون من مرحلتين، الأولى التسوية، وهو أسلوب مطبَّق عالمياً في التعامل مع هذه الحالات المعقدة، وللموقوف حرية رفضها كاملة، حيث إن إقراره بالتهم يتبعه تسوية مالية يدفعها ومن ثم توصية بالعفو عنه.

أما المرحلة الثانية فهي التحقيق الرسمي معه ومواجهته قانونيا بالأدلة، في حال رفضه التسوية، وفقا لإجراءات التحقيق التي نص عليها نظام الإجراءات الجزائية، كأي متهم، مؤكدة أن أغلب الموقوفين قبلوا بالتسوية.

كما أعلنت أن الذين استُدعوا بلغ عددهم 320 شخصا، الموقوفون منهم في تاريخ البيان - 5 ديسمبر - بلغوا 159 شخصا، والحسابات البنكية الموقوفة بلغت 376 حسابا بنكيا فرديا.

التسويات والإفراج
مع مرور شهر على الإيقافات الصادرة بحق متورطين، بدأت تتوالى الإفراجات التي تمخضت إثر تسوية عقدها الموقوفون مع الحكومة وفق الإجراءات التي وضحتها النيابة العامة، وشمل الإفراج شخصيات عالية المستوى من أمراء ومسؤولين، فيما يُنتظر - وفق التأكيدات الرسمية - حدوث تسويات أخرى في الأيام المقبلة.