ربما هو أحد الأسئلة التي خطرت على أذهان الكثير منا في مرحلة ما. لماذا لا تقوم البنوك المركزية بطباعة المزيد من الأموال وتسدد ديون حكوماتها وتساعد الفقراء وتعفي الناس من الضرائب ويصبح الجميع أفضل حالاً؟

وإذا كانت هناك إجابة مباشرة ومختصرة لهذا السؤال فهي أن قيام أي حكومة بهذه الخطوة يهدد بانزلاق بلادها إلى مستنقع التضخم المفرط الذي بإمكانه تدمير الاقتصاد حرفياً. طباعة المزيد من الأموال لا تجعل المواطنين أكثر ثراءً، والتأثير الفعلي لتلك السياسة هو ارتفاع الأسعار.

على سبيل المثال: برأيك ماذا سيحدث لو افترضنا أن الحكومة الماليزية قررت اعتباراً من الشهر القادم منح كل مواطن 100 ألف رينجيت شهرياً؟ بعضنا سيعتقد خطأ أن المواطن الماليزي أصبح الآن أكثر ثراءً، ولكن هل هذا هو الواقع؟ هل أصبح فعلاً أكثر ثراءً؟

الفرق بين النقود والثروة

عندما يحصل كل مواطن على 100 ألف رينجيت شهرياً فإن التأثير المباشر لتلك الخطوة هو ارتفاع أسعار كل شيء بشكل متناسب. وهذا ببساطة يرجع إلى انخفاض القوة الشرائية للعملة بسبب ارتفاع المعروض منها.

لنفترض مثلاً أن المرتب الشهري للمواطن الماليزي يبلغ 6 آلاف رينجيت، ويستطيع بهذا المبلغ شراء جوالين تكلفة الواحد منهما 3 آلاف رينجيت. ولكن إذا ارتفع دخله إلى 106 آلاف رينجيت، وارتفع سعر الجوال إلى 53 ألف رينجيت، فكم جوالا يستطيع شراءه بهذا الدخل؟ بلا شك هما جوالان اثنان. أي أنه لا يوجد تغير حقيقي في الثروة. التغير الوحيد هو ارتفاع الأسعار.

بعبارة أخرى، الثروة لا يتم إنشاؤها عن طريق طباعة النقود، لأن النقود ما هي إلا ممثل للثروات الموجودة. وبالتالي فإن طباعة المزيد من النقود دون زيادة الثروة التي تمثلها ستتسبب في أن كل وحدة من هذه النقود ستمثل شريحة أصغر من الثروة التي تم تقسيمها إلى شرائح أكثر.

ولكن لماذا قد يمثل التضخم مشكلة؟ الأثر المباشر للتضخم هو انخفاض قيمة المدخرات. كل من يحتفظ بأي مدخرات ستتآكل قيمتها بالتناسب مع ارتفاع معدل التضخم. وفي نفس الوقت، يتسبب التضخم المفرط في حالة من عدم الاستقرار لمستويات الأسعار، مما يخلق حالة من عدم اليقين والارتباك وهو ما سيثني الكثير من الشركات عن الاستثمار، وبالتالي سينخفض النمو الاقتصادي.

الحكومات تقترض عن طريق بيع السندات إلى القطاع الخاص، والسندات شكل من أشكال الادخار.

فالمستثمرون يشترون السندات الحكومية لأنهم يعتبرونها استثمارا آمنا. ولكن إذا لجأت الحكومة إلى طباعة الأموال لتسديد ديونها فإن التضخم سيرتفع، وبالتبعية ستنخفض قيمة السندات.

إذا زاد التضخم أو خرج عن نطاق السيطرة فلن يرغب الناس في الاحتفاظ بالسندات لأن قيمتها ستنخفض.

وهكذا ستجد الحكومة صعوبة في بيع سنداتها لتمويل ديونها. وستضطر إلى دفع أسعار فائدة أعلى لجذب المستثمرين.

الحجم الأمثل

الآن يوجد هناك سؤال هام يطرح نفسه، وهو: ما هو الحجم الأمثل للأموال التي يمكن طباعتها؟ بشكل عام لا توجد هناك أي أنماط أو قيود محددة تنظم عملية طباعة الأموال، ولكن نظرياً يجب أن تتناسب الأموال المطبوعة مع قيمة السلع والخدمات التي ينتجها الاقتصاد.

عادة ما تقوم البنوك المركزية بطباعة ما يعادل 2 إلى 3% من قيمة الناتج المحلي الإجمالي. ولكن هذه النسبة تختلف من اقتصاد لآخر. والنسبة عادة ما تتجاوز 3% لدى الكثير من البلدان النامية.

يجب أن يكون هناك توازن مثالي بين كمية الأموال المطبوعة وقيمة السلع والخدمات التي ينتجها الاقتصاد. وهذا هو السبب في أن البلدان التي تشهد اقتصاداتها توسعاً كبيراً تلجأ إلى طباعة المزيد من الأموال.

في الاقتصادات الناشئة، عادة ما يخرج جزء كبير من السكان من الفقر بشكل دوري. وبالتالي يجب على الحكومة توفير ما يكفي من العملة للمستهلكين حتى يتمكنوا من تلبية احتياجاتهم. وهذا ما يسمى بـ"العرض النقدي المتزايد" والذي ينبغي أن يتناسب مع الناتج الفعلي للاقتصاد.

المجر .. دولة تتحول إلى ماكينة طباعة كبيرة

تعرضت المجر للتدمير الكلي خلال الحرب العالمية الثانية، وتحديداً في عام 1944 حين أصبحت ساحة معركة بين روسيا وألمانيا. فقد دمرت 90% من الطاقة الصناعية للبلاد، كما تم تدمير معظم خطوط السكك الحديدية. ولكن حتى الأصول التي لم يصبها ذلك الخراب إما تمت إعادتها إلى ألمانيا أو تم الاستيلاء عليها من قبل الروس.

بعد أن فقدت البلاد بنيتها التحتية الأساسية بالكامل، أرادت الحكومة أن تعيد بناء القدرة الإنتاجية المفقودة بسرعة وإعادة الناس إلى العمل، ولكنها لم تكن تستطيع ذلك. فالسوفيت المحتلون أثقلوا كاهل المجريين بتعويضات مالية شاقة. وهكذا بقيت المجر مع عجز حكومي هائل لا توجد وسيلة لتمويله. ولكن فجأة قررت الحكومة طباعة المزيد من الأموال لسد ذلك العجز.

طبعت الحكومة الأموال وأقرضتها بأسعار مخفضة إلى البنوك التي أقرضتها بدورها إلى الشركات. كما قامت الحكومة بتعيين آلاف العمال وأعطت قروضا ميسرة للمستهلكين. باختصار، أغرقت الحكومة المجرية حرفياً البلاد بالمال من أجل دفع عجلة الاقتصاد مرة أخرى.

لتوضيح مدى سرعة ضخ الأموال في دائرة التداول يكفي أن نشير إلى أن إجمالي المتداول من العملة المجرية في يوليو/تموز 1945 كان يقدر بنحو 25 مليار بنجو. ولكن بحلول يناير/كانون الثاني 1946 أي في غضون 6 أشهر تقريباً ارتفع حجم المعروض النقدي إلى 1.646 تريليون بنجو.

بعد أربعة أشهر وتحديداً في مايو/أيار 1946 ارتفع حجم المعروض النقدي إلى 65 كوادريليون (مليون مليار) بنجو، قبل أن يصل إلى 47 سبتليون (تريليون تريليون) بنجو بحلول يوليو/تموز من نفس العام.

في ذروة التضخم كانت الأسعار ترتفع بمعدل 150000% كل يوم. وحينها توقفت الحكومة عن جمع الضرائب كلية، وكان تأخرها ليوم واحد في جمع الضرائب يقضي على قيمة تلك الأموال.

لكن من الذي تحمل عواقب ذلك التضخم؟ أولاً وقبل أي فئة الأخرى، العمال هم من تحملوا الفاتورة. فالأجور الحقيقية انخفضت بأكثر من 80% نتيجة للتضخم. أما حاملو السندات الحكومية المجرية فقد خسروا كل أموالهم تقريباً.

قصة المجر مع طباعة الأموال ليست استثنائية. فهناك الكثير من الدول التي لجأت في مراحل مختلفة من تاريخها إلى طباعة الأموال بشكل لا يتناسب مع الحجم الفعلي للاقتصاد، مثل ألمانيا وبوليفيا ومؤخراً زيمبابوي. والدرس المستفاد من كل هذه التجارب هو أن الطباعة غير المسؤولة للنقود تخلق مشاكل أكثر مما تحل.