على شواطئ مدينة جدة وضفاف البحر الأحمر، انطلق قبل أيام مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي، في نسخته الثالثة، بمشاركة أفلام عالمية تُعرض لأول مرة بالمنطقة، وسط حفاوة بالفن السعودي، ترجمها عرض فيلم "حوجن" في افتتاح المهرجان، بحضور فنانين عالميين، مثل ويل سميث، وجوني ديب، والمخرج الأسترالي باز لورمان، وأيقونة السينما الهندية رانفير سينغ، في تكريم واضح للفن السعودي عمومًا ولصناع فيلم حوجن بالخصوص.
يمثل "البحر الأحمر السينمائي" امتداداً للطفرة الفنية في السعودية خلال السنوات الماضية، وحلقة من حلقات الدعم الحكومي للفنون والثقافة منذ إطلاق رؤية 2030، التي وضعت نصب عينيها دعم الفن والفنانين السعوديين وجعل المملكة وجهة فنية وثقافية، عبر استقطاب الفنانين وصناع الأفلام والعروض الفنية من العالم ودول المنطقة، حيث قدم للمملكة أشهر الفنانين في الوطن العربي وهوليود وبوليوود وبقية أنحاء العالم، إضافة إلى أشهر المطربين والعازفين والفنانين التشكيليين، لعرض تجاربهم ونجاحاتهم ونقل خبراتهم المتراكمة للأجيال الفنية السعودية الصاعدة.
وقد تلقف الوسط الفني السعودي هذه الفرصة التاريخية لصناعة تاريخ لوطنهم وأنفسهم؛ حيث أُنتجت عشرات الأفلام القصيرة والطويلة خلال السنوات القليلة الماضية، مستندة للدعم الإنتاجي السخي من وزارة الثقافة ومؤسسة البحر الأحمر السينمائي وصندوق البحر الأحمر لدعم المواهب، وكذلك الأمر بالنسبة للدراما والموسيقى؛ فالحفلات الموسيقية تغمر أنحاء المملكة كل نهاية أسبوع تقريبًا لا سيما في الأعياد والمناسبات الوطنية والمواسم، يتغنى فيها الفنانون السعوديون الذين لطالما حلموا بالغناء في وطنهم، ها هم اليوم يطوفون أرجاءه بأغانيهم وألحانهم التي شدت بها الأجيال.
والعرض الأول لفيلم ناقة السعودي ضمن مهرجان البحر الأحمر السينمائي أفضل مثال على الإنتاج الفني السعودي والطفرة التي أنجزها، فبعد عرضه لأول مرة بمهرجان تورنتو بكندا قبل أشهر قليلة ونيل بطلته أضواء بدر جائزة مرموقة بذلك المهرجان، قدمه البحر الأحمر للجمهور كعرض أول في المنطقة، قبل أن تعرضه منصة نتفليكس للبث الرقمي اعتباراً من السابع من ديسمبر الجاري.. هذه إحدى ثمار حرص الجهات الثقافية والفنية السعودية على دعم المنتج الفني السعودي وتوفير منصات عرض متعددة له محليًا وإقليميًا ودوليًا.
وفي هذا السياق، يؤكد المنتج ومخرج الأفلام السعودي ممدوح سالم، في تصريح لـ"أخبار 24" على هامش مهرجان البحر الأحمر السينمائي، أن تجربة فيلم "حوجن" ظهر فيها الدعم الإنتاجي الكبير، الأمر الذي انعكس بشكل إيجابي على الصناعة السينمائية.
ويعرض المهرجان هذا العام ضمن برنامج "سينما السعودية الجديدة"، 19 فيلمًا سعوديًا قصيرًا؛ وذلك للاحتفاء بالسينما السعودية، وتشجيع المواهب السعودية الملهمة التي باتت ترسم مستقبلاً سينمائيًا مشرقًا للمملكة، وتكريم الإنجازات التي حققتها صناعة الأفلام بالمملكة، ومن أبرز هذه الأفلام (وحش من السما، وشدة ممتعة، وسليق)، أبطال هذه الأفلام من الجيل السينمائي السعودي الصاعد.
وأكد الرئيس التنفيذي لمؤسسة البحر الأحمر السينمائية، محمد التركي، أن هذا البرنامج يعكس التزام المؤسسة الدائم بدعم المواهب السعودية السينمائيّة، كونه برنامجًا مكرّسًا لصنّاع الأفلام الحالمين، الذين يطمحون لتشكيل مستقبل السينما السعودية.
كما تعمل مؤسسة البحر الأحمر السينمائية على دعم صناع الأفلام السعوديين الذين حققوا نجاحات عالمية، عبر تمكين المواهب الصاعدة وتوفير منصات لعرض إبداعات الفنانين السعوديين محليًا وعالميًا؛ حيث عرضت المؤسسة خمسة من أفلامها المدعومة من صندوق البحر الأحمر في مهرجان تورونتو السينمائي الدولي "TIFF" أحد أكبر المهرجانات السينمائية بالعالم، في سبتمبر الماضي، من بينها الفيلم السعودي "مندوب الليل".
ويعتبر صندوق البحر الأحمر المخصص لدعم وتمويل الأفلام والمواهب الجديدة من المملكة العربية السعودية خاصةً إضافةً للعالم العربي وقارة إفريقيا، حيث يقدم التمويل للأفلام في جميع مراحل التطوير والإنتاج وما بعد الإنتاج.
يأتي هذا ضمن جهود الدولة (ممثلة في وزارة الثقافة والهيئات الفنية التابعة) الحثيثة لدعم الفن والفنانين، والدفع بالفنون والثقافة دفعات للأمام تجعل المملكة وجهة ثقافية ومحطة فنية بمنطقة الشرق الأوسط.
وقد تكرست هذه الجهود في افتتاح السينما بالسعودية عام 2018 حتى أصبحت لديها اليوم أكبر دور عرض عربيًا بـ63 مجمعًا للعرض السينمائي و581 شاشة.
وتتوقع هيئة الإعلام المرئي والمسموع أن تكون في المملكة 350 دار سينما و2500 شاشة بحلول 2030.
وفي هذا السياق، يرى الناقد السينمائي السعودي أحمد العياد أن ما حدث في 2017 (وهو منح وزارة الثقافة تراخيص لإنشاء دور عرض للسينما بالمملكة) كان بمثابة نقلة نوعية حقيقية في صناعة السينما في السعودية خاصة "مع إنشاء هيئات دعم سينمائي وتقديم دعم مالي لأفلام سعودية وعربية على حد سواء".
بدوره، يؤكد المنتج والمخرج السعودي، فيصل بالطيور في تصريح لـ"أخبار 24"، أن السينما السعودية في تطور كبير، وقد ارتفع نصيب الأفلام السعودية من شباك التذاكر بدور العرض إلى 30%، بعد أن كان قبل ثلاث سنوات لا يتجاوز 0.1%.
وأضاف أن السينما السعودية حققت نجاحات واسعة، على المستويين العربي والعالمي، من خلال المهرجانات والمنصات الرقمية، لتدخل بذلك الأفلام السعودية ضمن قائمة أفضل عشرة أفلام في بعض الدول العربية، فضلًا عن تحقيق مسلسل "جايبة العيد"، والذي عُرض على "نتفليكس" أعلى نسبة مشاهدة في فرنسا.
وأشار إلى أن عدد التذاكر المُباعة خلال تلك الفترة وصل لأكثر من مليون تذكرة، موضحًا أن هذه الأرقام تدعو للفخر، خاصة أن هناك بالفعل أفلامًا سعودية قادمة للسينما، منها "مندوب الليل" و"أحلام العصر"، وهي أعمال متوقع أن تأتي بملايين التذاكر.
كما تعمل المملكة على دعم الفن في دول المنطقة لاسيما الدول الرائدة، وذلك بالإنتاج والتطوير والتوزيع، وفي هذا الصدد يقول الرئيس التنفيذي لشركة سينيويفز فيلمز فيصل بالطيور، إن المملكة تتطلع لغزو الشرق الأوسط في قطاع صناعة الأفلام، مشيرًا إلى أن هناك استثمارًا سعوديًا في الأفلام المصرية والتونسية.
أما الدراما السعودية، فقد اكتسبت زخمًا كبيرًا خلال السنوات الماضية، بعد الطفرات التي أحدثتها مسلسلات مميزة شكلت نقلات نوعية للدراما السعودية، مثل العاصوف لناصر القصبي، الذي يعتقد الناقد أحمد العياد طبقًا لما نقله موقع "فايس" بنسخته العربية" أن المسلسل مثّل نقلة نوعية مهمة في الدراما السعودية.
ومن ثم جاءت المسلسلات الشبابية التي شقت طريقها عبر "يوتيوب" والمنصات الرقمية، حيث يرى العياد أن أحد التحولات الكبيرة في سوق الدراما السعودية هو ما حدث مؤخرًا مع مسلسلات المنصات، ويضيف "أن إنتاج مسلسلات من 30 حلقة مسألة مرهقة لصناعه، وحاليًا تحاول الدراما السعودية التخلص من هذا الأمر، وإنتاج مسلسلات من 20 حلقة فقط.
وهذه المنصات أتاحت الفرصة لعمل مسلسلات عن شخصيات مهمة في السعودية، مثل مسلسل "رشاش".
شكّل مسلسل "رشاش" إذًا نقلة نوعية للدراما السعودية، حيث تخلى عن الرتابة والأسلوب المكرر، وتفرد بصبغة جديدة مختلفة ميزته عن غيره من المسلسلات، بالإضافة إلى تناوله لقصة حقيقية يعرفها المجتمع، وكان وراء هذا المسلسل إنتاج فني ضخم، وباتت الدراما السعودية حاليًا تجد الطريق مشرعًا نحو منصات البث الإقليمية والعالمية، بفضل تميزها وجذبها للمشاهد، مثل شاهد ونتفليكس وغيرهما.
وتعمل وزارة الثقافة وهيئة الأفلام وجمعية الثقافة والفنون على تطوير صناعة الدراما، عبر تطوير المهتمين بهذه الصناعة من خلال عقد ورش عمل ولقاءات دورية بين المخرجين والمنتجين والكتاب، وربطهم مع الجهات والمهرجانات العالمية وتوفير الميزانيات اللازمة لصنع محتوى ثري يمثل المجتمع ويصل للعالم أجمع.
وعلى صعيد الفن التشكيلي استقطبت المملكة كبار الفنانين العالميين (من بينهم جيمس توريل ومايكل هايزر) للعمل في مشروع وادي الفن بمحافظة العلا السياحية، ومن المقرر أن يقوم الفنانون أغنيس دينيس، والسعوديان منال الضويان، وأحمد ماطر، بتركيب أعمال ضخمة في وادي الفن، على أن ينضم لهم لاحقًا مزيد من الفنانين، حيث تخطط الفنانة الضويان، وهي من أبناء المنطقة الشرقية، لإنشاء نسختها الخاصة من المدينة المبنية من طوب اللبن في الوادي وتزيين جدرانها بلوحات ونصوص أنشأها المجتمع المحلي في العلا.
بينما تطمح الهيئة الملكية لمحافظة العلا لأن يصبح الوادي محطة لمحبي الفن، كما هو الحال مع قاعة مارفا في تكساس ومنتزه الغابة الفني في البرازيل، وذلك طبقًا لتقرير لصحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية.
وتعمل الجهات المعنية بالدولة انطلاقًا من توجيهات ومستهدفات رؤية السعودية 2030 على تعزيز المشاركة في المسابقات الثقافية والفنية والمحلية والدولية في المدارس، وتنفيذ حصص ومحاضرات فنية للطلاب والطالبات بعد إدراج الموسيقى والفنون ضمن المناهج والأنشطة بالمدارس والجامعات، وإنشاء أكاديميات ومعاهد متخصصة للسينما والفنون في الجامعات السعودية، وتأسيس الجمعيات الثقافية والفنية ومنها جمعية السينما التي رأت النور قبل أعوام قليلة وتترأسها المخرجة الشهيرة هناء العمير، وتسهم هذه التطورات في تغيير الوعي المجتمعي للفنون والثقافة، وخلق أجيال مؤهلة للمنافسة الإقليمية والعالمية في قطاعات الفنون المختلفة.
خلاصة القول إن السعودية تسير بخطى ثابتة نحو التقدم على صعيد الفنون؛ أملاً في تحقيق الريادة الفنية في المنطقة مستقبلاً، في ظل الدعم الحكومي وغير الحكومي السخي للأعمال الفنية المختلفة، والإنتاج المتسارع للوسط الفني السعودي على صعيد السينما والدراما والمسرح والموسيقى والفنون التشكيلية وغيرها، بالاستفادة من التجارب الأجنبية التي تفد للمملكة في المهرجانات والفعاليات المختلفة وإبداع تجارب فنية سعودية خالصة تحكي قصص هذه الأجيال الشابة التي انفجرت مواهبها في ظل التطور والنهضة التي تعيشها المملكة لاسيما على الصعيد الاجتماعي.