تصفير التوترات، بحنكة الكبار وثقة المخضرمين وخبرات المتمرسين ومصداقية وثَّقتها أقلام المؤرخين على مدار السنين، سطرت الدبلوماسية السعودية في عام 2023 حضوراً قويًا على المستوى العربي والإقليمي والدولي، حيث أصبحت محطة مهمة للعديد من الفرقاء للجلوس على طاولة المفاوضات سعيا لإنهاء النزاعات.

وكخلية نحل، لم تتوانَ الدبلوماسية السعودية المخضرمة خلال هذا العام، عن الوساطة بين المتنازعين هنا وهناك؛ من أوروبا بالأزمة الروسية الأوكرانية، مرورا بالمعضلة اليمنية، ثم إفريقيا في الأزمة السودانية، وغيرها من الملفات عبر العالم، لتنجح تلك الدبلوماسية في إرساء السلام وإطفاء حرائق العديد من النزاعات الدائرة مسطِّرة حقبة جديدة من العمل السياسي الفاعل والمؤثر على كافة الأصعدة.

ولم يأتِ ذلك النجاح المنقطع النظير من فراغ، ولكنه كان انعكاسا لتوجهات قيادة المملكة الواثقة من مواقفها وقراراتها، المبنية على وضوح المواقف وثبات المبادئ ومرونة ترتيب، وتمكين مصالحها على الصعيدين الإقليمي والعالمي بكل احترافية وسرعة.

نجاح عزَّزه أيضا توسُّع مجالات الدبلوماسية السعودية لتشمل تزايد نشاط تنظيم وحضور اجتماعات القمم واستضافة المؤتمرات والفعاليات الدولية، وتنشيط الدبلوماسيّة البرلمانية، وتفعيل دور صناديق التنمية والإقراض والمساعدات الإنسانيّة، وضخ المزيد من المواطنين في المنظمات الدوليّة بما يليق بحجم المملكة ومساهماتها ودورها.

الصراع في السودان واتفاق جدة

يشهد الجميع على تنامي دور المملكة الدبلوماسي في محيطها العربي خلال 2023، إثر تدخُّلها بقوة في الملف السوداني، حيث أجْلت آلاف المدنيين والدبلوماسيين جراء تفجّر الأزمة السودانية بشكل مفاجئ في إبريل الماضي، وذلك في مبادرة حظيت بإشادة دولية كبيرة، حيث أعلنت الخارجية السعودية عن إجلاء أكثر من 5 آلاف شخص من 100 دولة، فيما وصفت بإحدى أكبر عمليات الإجلاء الناجحة عالمياً.

ولم يقف دور المملكة عند حد الإجلاء، إنما بفضل وساطتها نجحت في إبرام ما عُرف بـ"اتفاق جدة"، وذلك بعد جمع الفرقاء على طاولة المفاوضات، بعد 4 أسابيع فقط من القتال، حيث كان الاتفاق مبدئياً لكي يتبعه جولات أخرى من النقاشات، بهدف التوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار، ونصّ الإعلان على 7 بنود، أهمها الالتزام بحماية المدنيين كشرط أساسي، وتأكيد التزام الجانبين بسيادة السودان ووحدته.

حرب غزة وجهود كسر الحصار

ومع تطورات الأوضاع في الأراضي الفلسطينية والحرب في غزة، حركت الدبلوماسية السعودية كافة أذرعها في مسعى لوقف تلك الحرب، ففي نوفمبر الماضي احتضنت الرياض قمة عربية إسلامية استثنائية، خرجت بقرارات مهمة من بينها، تشكيل اللجنة الوزارية المكلفة من القمة، ببحث سُبل وقف تلك الحرب وذلك برئاسة وزير الخارجية الأمير فيصل بن فرحان بن عبدالله.

وقامت اللجنة بعدة جولات دولية، ناقشت خلالها سُبل تجنب توسيع رقعة الصراع القائم في غزة، وضرورة تأمين الممرات الإغاثية لإيصال المساعدات الإنسانية والغذائية والطبية العاجلة للقطاع، وتمهيد الظروف لعودة الاستقرار واستعادة مسار السلام.

وشهدت تلك القمة مشاركة أكثر من 57 دولة في القمة التي خرجت بجملة قرارات استثنائية، أبرزها كسر الحصار الذي تفرضه إسرائيل على غزة، والتشديد على وقف حربها على القطاع وإنهاء الاحتلال.

وكان الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة، بندا رئيسيا في القمة السعودية الإفريقية التي عقدت قبل أسابيع قليلة، وكذلك في القمة السعودية الروسية خلال زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للرياض مؤخراً، حيث شددت المملكة وروسيا على ضرورة وقف العمليات العسكرية في الأراضي الفلسطينية، وأكدتا على أنه لا سبيل لتحقيق الأمن والاستقرار في فلسطين، إلا من خلال تنفيذ القرارات الدولية المتعلقة بحل الدولتين، وتنفيذ مبادرة السلام العربية، وأعربتا عن بالغ قلقهما حيال الكارثة الإنسانية في غزة.

الأزمة اليمنية وإنهاء النزاعات

منذ بداية 2023، كثفت المملكة جهودها وألقت الدبلوماسية السعودية بثقلها في مساعيها لإنهاء الأزمة بين الحوثيين والحكومة اليمنية، عبر الدفع بقوة بمسار جلوس الطرفين على طاولة المفاوضات لإنهاء النزاعات.

تلك التحركات التي قامت بها الدبلوماسية السعودية شهدت محطات عدة على مدار العام، كان أبرزها في سبتمبر الماضي عندما وصل وفد من الحوثيين إلى الرياض بناء على دعوة من المملكة وبتنسيق عُماني.

وآنذاك قالت الخارجية السعودية إن الدعوة جاءت "بناء على المبادرة السعودية التي أُعلنت في مارس 2021"، واستكمالا للقاءات التي أجراها سفير المملكة إلى اليمن، محمد آل جابر، في صنعاء منتصف إبريل 2023.

وقبل أيام، رحبت المملكة بالبيان الذي أصدره المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى اليمن بشأن التوصل إلى خريطة طريق لدعم مسار السلام، وجددت وزارة الخارجية التأكيد على استمرار وقوف المملكة مع اليمن وشعبه، وحرصها الدائم على تشجيع الأطراف اليمنية للجلوس على طاولة الحوار، للتوصل إلى حل سياسي شامل ودائم برعاية الأمم المتحدة، والانتقال باليمن إلى نهضة شاملة وتنمية مستدامة تحقق تطلعات شعبه.

الأزمة الروسية الأوكرانية والدور السعودي لحَلْحَلَتها

وتجاوزت جهود الوساطة التي تبذلها الرياض منطقة الشرق الأوسط، إلى أوروبا حيث الأزمة الروسية الأوكرانية، ففي أغسطس الماضي شارك ممثلون عن 40 دولة من بينها الولايات المتحدة والصين والهند في محادثات بمدينة جدة في مسعى سياسي جديد لبلوغ اتفاق يُنهي تلك الحرب.

ووجَّه البيت الأبيض وقتذاك، الشكر للمملكة على استضافة تلك المحادثات التي تهدف إلى حل الأزمة والتي شهدت حضورا وزخما دوليا قويا، فيما أعلنت روسيا أنها ستناقش نتائج هذه المحادثات مشيِّدة بالدور السعودي على الصعيد الدولي ولا سيما فيما يتعلق بتلك الأزمة.

نشاط دبلوماسي على المستوى الخليجي

وعلى صعيد الدبلوماسية الخليجية، شهدت مدينة جدة يوليو الماضي قمة لقادة دول مجلس التعاون الخليجي، ودول آسيا الوسطى الخمس (C5)، شددت على أهمية تعزيز الحوار الإستراتيجي والسياسي بين الجانبين، وتعزيز الشراكة نحو آفاق جديدة في مختلف المجالات، بما في ذلك الحوار السياسي والأمني، والتعاون الاقتصادي والاستثماري، وتعزيز التواصل بين الشعوب.

كما اجتمع قادة وزعماء 16 دولة خليجية وآسيوية في الرياض، في أكتوبر الماضي، في قمة تاريخية هي الأولى بين مجلس التعاون الخليجي ورابطة الآسيان، حيث تم تدشين خطة عمل مشتركة للفترة من 2024 – 2028، لرسم خريطة طريق واضحة وتعزيز التعاون والشراكة في مختلف المجالات بما يخدم المصالح المشتركة.

تصفير التوتُّرات وعودة العلاقات مع إيران وسوريا

وبالإضافة للأزمات التي توسطت فيها المملكة وهي ليست طرفا فيها سعيا لإنهائها وسكب سحب السلام والبرد عليها، فقد انتهجت الدبلوماسية السعودية أيضا نهج إنهاء التوترات التي شابت علاقاتها مع بعض الدول لسنوات، ففي مارس الماضي، أعلنت المملكة وإيران استئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما، وإعادة فتح سفارتَي البلدين وممثلياتهما خلال 60 يوماً، وذلك بعد محادثات برعاية صينية.

وتضمَّن الإعلان في بيان ثلاثي مشترك، تأكيد البلدان الثلاثة على احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية. وتم لاحقاً إعادة فتح سفارتي البلدين وبدء مهامهما الدبلوماسية بشكل رسمي، كما زار المملكة الرئيس إبراهيم رئيسي لأول مرة منذ عودة العلاقات في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي للمشاركة في القمة العربية - الإسلامية الاستثنائية بشأن غزة.

وفي مايو الماضي، أعلنت المملكة استئناف عمل بعثة المملكة الدبلوماسية في سوريا، فيما أعلنت الأخيرة الأمر ذاته وعينت محمد أيمن سوسان، سفيرا لها لدى المملكة، وذلك بعد قرار جامعة الدول العربية بعودة سوريا إلى مقعدها.

وفي الشهر ذاته، أعلنت المملكة إعادة مستوى العلاقات الدبلوماسية مع كندا إلى وضعها السابق على أساس الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، وقالت وزارة الخارجية، آنذاك إن القرار جاء في ضوء ما تم بحثه بين ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، الأمير محمد بن سلمان ورئيس وزراء كندا جاستن ترودو، على هامش قمة منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ (APEC) في بانكوك بنوفمبر 2022م.

هذه الحقبة الدبلوماسية تتزامن في الوقت ذاته مع إعطاء المملكة الأولوية للنمو الاقتصادي في الداخل، الأمر الذي يتطلب تحقيق الاستقرار الإقليمي، حيث يسعى الاقتصاد الذي تبلغ قيمته 1 تريليون دولار ليصبح لاعباً اقتصادياً عالمياً ومركزاً إقليمياً رئيسياً للسياحة والأعمال.