ما بين وعورة التضاريس وسهولتها وتفاوت الطقس بين المعتدل إلى البارد، نشأت قرى مترامية الأطراف عاش بها نحو نصف مليون نسمة، وجعلت هذه المعطيات قرى الباحة مقصداً للسياح والزوار من داخل المملكة وخارجها، لاستكشاف الحضارات القديمة التي صنعها الإنسان في تلك القرى، مثل الحضارات التي أخرجت لنا كنوزاً أثرية، تجسدت في المنازل الحجرية المنحوتة في الصخر.
وكانت هيئة التراث قد أدرجت في سجلها الوطني، أكثر من 194 موقعًا أثريًا وتراثيًا تتوزع بمختلف المحافظات التابعة لمنطقة الباحة، التي تضم 72 قرية تراثية تم تصنيفها وترميزها بلوحات "باركود" وفقًا لإحصاءات هيئة التراث.
وتتناثر في الباحة القرى التراثية والمباني الأثرية على امتداد البصر، وبمساحات مترامية الأطراف، أُسست ما بين التضاريس الوعرة والسهلة والأجواء المختلفة بين المعتدل إلى البارد، مما شكل إرثًا تاريخيًا غنيًا بالتقاليد والعادات والفنون التي تشكل جزءًا أساسيًا من الهوية الوطنية، وتعكس تنوعًا ثقافيًا واجتماعيًا ومصدرًا ثريًا وفيرًا للقيمة المضافة في الاقتصاد الوطني، فأصبحت هذه القرى مقصدًا للسياح والزوار من داخل المملكة وخارجها، لاستكشاف الحضارات القديمة التي صنعها الإنسان.
وتضم هذه القرى والمواقع التاريخية، إرثًا مذهلًا من فن العمارة القديمة، من خلال البيوت والمساجد والقلاع والحصون، إذ كان الأهالي يعتمدون في بنائها على مكونات الطبيعة المحلية كالأحجار والأشجار والرمل لبناء الأسقف والأعمدة والأبواب والسواري، وخصوصًا الأشجار المحلية كالعرعر والسدر والطلح والزيتون البري، ويتم نقشها بأشكال مختلفة، ثم تطلى بمادة القار الأسود، ثم تغيرت الألوان مع مرور الزمن لرسم النقوش، لتظهر أكثر جمالًا، كما استخدمت صخور الجرانيت والبازلت في البناء، وتزين بأحجار المرو.
وتحظى هذه القرى الأثرية والمواقع التاريخية بالمنطقة باهتمام ودعم من أمير منطقة الباحة الأمير الدكتور حسام بن سعود، الذي يؤكد في عدة مناسبات على أهمية هذه القرى والمواقع وما تمثله من إرث تاريخي، يشكل جزءًا أساسيًا من الهوية الوطنية، ويبرز تاريخ المنطقة وعاداتها وتقاليدها.
وتختزن المباني الأثرية في الباحة، قصصًا وروايات تشكّل في مجملها توثيقًا للتاريخ والحركة الثقافية في حقب زمنية مهمة في تاريخ الحضارة الإنسانية، وتؤكّد في الوقت ذاته على عمق الإرث الحضاري لها.
ويعود تاريخ قرية "ذي عين" الأثرية بالمخواة، لأكثر من 400 عام، وتضم نحو 58 بيتًا أثريًا، وأغلب المباني حجرية، وبعضها محفورة على قمة جبل، والمنازل متعددة الطوابق، لذلك لقبت باسم "القرية الرخامية"، كموقع تراثي فريد من نوعه، محاطة بالنخيل وأشجار الموز والريحان والليمون، وتمتاز بتراث أصيل، وتاريخ عريق وجمال أخاذ يأسر الألباب.
أما قرية الأطاولة التراثية، فتضم بين جنباتها سوق ربوع قريش، وحصن مشيخة آل عثمان، وأول مدرسة نظامية، كما تحتضن أيضًا المسجد التاريخي الذي حظي بتطوير ضمن مشروع الأمير محمد بن سلمان لتطوير المساجد التاريخية، إضافة إلى قريتي الخلَف والخلِيف التاريخيتين المتجاورتين، وتتميزان بالنقوش الإسلامية الأثرية القديمة، من الآيات القرآنية والأدعية على أحجار البازلت، وقرية آل موسي الأثرية، وقرية مطير العيش التاريخية بالحجرة.
وإلى جانب القرى التراثية، هناك العديد من المواقع التاريخية، مثل قصر ابن رقوش التاريخي الواقع ببني سار شمال الباحة، حيث أوضح عبدالعزيز بن عبدالله بن رقوش أن القصر الذي تم بناؤه عام 1249هـ، يتكون من خمسة منازل كبيرة بعضها يحتوي على 3 أدوار مبنية بطراز معماري فريد، إضافة إلى مجلس للقبيلة، ومسجد ملحق بالقصر، ومهاجع للخدم، وبئر ماء، وفناء داخلي، إضافة إلى منزلين آخرين حول القصر، لتشكل جميعها منظومة سكنية متكاملة.
كما تتضمن المواقع التاريخية بالمنطقة قلعة بخروش بن علاس التي تقع شمال غرب محافظة القرى، وهي عبارة عن قلعة قديمة ذات أسوار عالية، مع وجود برجين على أطرافها، فيما يطلّ حصن الأخوين على قرية الملد صامدًا ببنائه وشامخًا بتاريخه، ويتكون من حصنين متجاورين في قمة تل عالي الارتفاع ويجاوره العديد من المنازل التراثية القديمة، ونزل العايد للتراث بقرية بني كبير، حيث تضم تلك المواقع العديد من المتاحف التي تبرز تاريخ المنطقة وتراثها.
وتحظى تلك القرى والمواقع التاريخية باهتمام وعناية وتطوير من الجهات ذات العلاقة، إذ عملت هيئة التراث على إعادة تأهيل وترميم قرية ذي عين التراثية على مرحلتين، ويجري العمل على تسجيلها ضمن التراث العالمي بمنظمة اليونسكو، إضافة إلى إعادة تأهيل قصر بن رقوش ليصبح مزارًا سياحيًّا.
وتؤكد الهيئة على ضرورة التعاون مع أهالي المنطقة في عمليات التأهيل والترميم، وتزويدهم بالاشتراطات والمعايير الخاصة بالترميم؛ من أجل تعزيز الهوية الثقافية السعودية ونشر الوعي الثقافي الوطني والمحافظة على الإرث الثقافي والقيم الاجتماعية.
وفي ظل النقلة النوعية بصناعة الترفيه والسياحة تحولت تلك القرى التراثية لمواقع لإقامة الفعاليات والمهرجانات والمتاحف، ما أدى لتوافد الزوار وجعل منها عاملًا مهمًا ومحركًا اقتصاديًا قويًا، لتشكيل الرؤية السياحية الوطنية المواكبة لمستهدفات الرؤية الطموحة للمملكة، وتبرز الإرث التاريخي لمنطقة الباحة أمام جيل الحاضر والمستقبل.
وتفتح القرى التراثية والمواقع التاريخية بمنطقة الباحة أبوابها طوال العام، حيث أصبحت وجهات سياحية تجذب الزوار والسواح من كافة أنحاء العالم، وتشهد إقامة مهرجانات تراثية ووطنية وتاريخية وثقافية، وتتيح هذه المهرجانات التعرف على الحياة الاجتماعية للأهالي القدامى ويشاهدون الفنون التراثية الشعبية كالعرضة والمسحباني واللعب، والعديد من العادات والأزياء التراثية والأكلات الشعبية والتفاصيل العمرانية، والمهن التقليدية التي كانت تعين القدامى في حياتهم لكسب العيش كالزراعة، والرعي، وأعمال التجارة، والمهن الحرفية مثل البناء والنجارة وغيرها، إضافة إلى الاستقبال والتوديع وفقًا لطقوس الضيافة التي تعكس كرم إنسان الباحة في الماضي والحاضر.
**carousel[4570405,4570406,4570407,4570408,4570409,4570410,4570411,4570412,4570413,4570414,4570415,4570416,4570417]**