الخلافات المتكررة بين الأشخاص، قد تؤدي إلى القطيعة، لكن الخلافات المتكررة بين البلدان، قد تؤدي للحرب، هذا ما يعلمنا التاريخ، وهو ما يمكن تطبيقه على ما حدث قبيل الحرب العالمية الأولى، وأدى لاندلاعها.
بين عامي 1908 و1914، كانت منطقة البلقان تشهد مزيجًا من تنازع القوى الاستعمارية عليها، فيمسك بزمام الأمور دولة عثمانية ضعيفة، وتتنازع قوتان هما روسيا من جهة، والنمسا والمجر من جهة أخرى، انتهت بضم إقليمي البوسنة والهرسك إلى الإمبراطورية النمساوية المجرية، إلا أن جريمة قتـل شهدتها صربيا أججت هذه الصراعات.
في 28 يونيو، 1914، كان ولي عهد النمسا، الأرشيدوق "فرانز فرديناند"، يتجول وزوجته في عربة مكشوفة، في شوارع مدينة سراييفو، بعد 4 أعوام من إعلان ضم إقليمي البوسنة والهرسك إلى الإمبراطورية النمساوية، وفي ظل إعلان النمسا نيتها ضم صربيا وإن كان هذا بالقوة أيضًا.
كانت جماعة صربية أعلنت عن نفسها باسم "اليد السوداء"، على علم بزيارة وريث العرش النمساوي، فأعدت خطة لاغتياله، وكانت خطة الاغتيال معتمدة على مجموعتين، الأولى تلقي بقنبلة على موكب ولي عهد النمسا، والثانية تطلق النيران على الموكب.
في المكان المحدد وبمحاذاة الموكب، سارت مجموعة التنفيذ الأولى، لتلقي بالقنبلة في الوقت المقرر سلفًا، إلا أنها خرجت بعيدة عن الموكب الذي لم يتوقف سوى لحظات، وتفشل عملية الاغتيال.
تفرقت المجموعة الثانية عند علمها بأن محاولة الاغتيال قد فشلت، وبينهم "غافريلو برينسيب" (20 عامًا)، الذي فضل اللجوء إلى أحد المقاهي القريبة ونسيان الأمر كله، وربما ذهب ليفكر لماذا فشلت عملية الاغتيال تلك؟
وفي مفاجأة للصربي الذي دخل المقهى لتوه، رأى تجمعًا قد بدأ يتكون أمام المقهى، إلا أن ما لفت نظره هو حديث العامة عن اقتراب موكب ولي العهد من المقهى، وفي جزء من الثانية كان برينسيب قد حسم أمره، سيحاول تنفيذ عملية الاغتيال مرة أخرى.
وبمسدس من طراز "براوننغ 9 ملم fn1910 "، بلجيكي الصنع، ونصف أوتوماتيكي، أطلق بربنسيب الرصاص على وريث الإمبراطورية النمساوية وزوجته صوفي، في العربة المكشوفة، ما أسفر عن مقـتلهما.
بعدما نفذ الصربي، عضو جماعة اليد السوداء، عملية الاغتيال حاول الانتـحار بالسم ، لكنه فشل، ثم حاول بعدها قـتل نفسه بالمسدس الذي قـتل به ولي العهد، كي لا يقع في قبضة الشرطة، لكن قُبض عليه قبل تنفيذه عملية الانـتحار، لتتم محاكمته، وحكم عليه بالسجن 20 سنة، قضى منها 3 فقط، لأنه مات بالسل داخل محبسه.
أدت حادِثة الاغتيال، إلى ما عرف عالميًا باسم "أزمة يوليو 1914"، ففي 23 يوليو، أصدرت النمسا-المجر إنذارا نهائيا إلى صربيا بضمها، استقطبت فيها إلى صفها ألمانيا، وفي 25 يوليو أصدرت الحكومة الروسية أوامرها بالتحضير للحرب وقد اختارت صف صربيا.
قصفت النمسا والمجر العاصمة الصربية بلغراد في 28 يوليو، فأعلنت روسيا التعبئة العامة مساء الـ30 من يوليو، فردت ألمانيا والنمسا والمجر بإعلان التعبئة العامة في الـ31 من يوليو، لتعلن ألمانيا ومن والاها الحرب في الأول من أغسطس، وتتدخل فرنسا لدعم روسيا في 2 أغسطس، وتبدأ الحرب العالمية الأولى.
وفي عام 2004 عثر على سـلاح الاغتيال، في دير بمدينة غراتس القريبة من العاصمة النمساوية، بعد أكثر من 90 عامًا على الواقعة التي شكلت التاريخ، وأشعلت حربًا راح ضحيتها الملايين.
تسببت الحرب في مصرع 8 ملايين شخص، وازدادت مديونية الدول الأوربية وتراجعت هيمنتها الاقتصادية لصالح الولايات المتحدة الأمريكية واليابان.
وتغيرت خريطة أوروبا بعد الحرب، فتفككت الأنظمة الإمبراطورية القديمة، وسقطت الأسر الحاكمة، كما تغيرت الحدود الترابية للقارة الأوروبية بظهور دول جديدة، وقامت الثورة الروسية التي طبقت أول نظام اشتراكي في إطار الاتحاد السوفياتي.
ونتج عن الحرب العالمية الأولى ظهور بعض الدول الجديدة في شرق أوروبا نتيجة لتفكك الإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية النمساوية المجرية وألمانيا والإمبراطورية الروسية، كما انتشرت الحرب الأهلية الروسية، وقد مالت هذه الدول إلى التشكل وفق العرقيات، مما أدى إلى انتشار الحروب الأهلية واللاجئين.