"ربما ننفق كل العمر كي نثقب ثغرة.. ليمر النور للأجيال مرة".. هكذا قال الشاعر العربي أمل دنقل، وهكذا الحال مع مَن أناروا دروبنا من معاصرين وراحلين، أنفقوا أو لا زالوا ينفقون أوقاتهم وجهودهم كي يمر إلينا النور، كلٌ في مكانه وموقعه، من العلوم الطبيعية والأدبية إلى السياسة وعلوم الدين والسينما والفنون.
وبين الراحلين والمعاصرين، تغوص "أخبار 24" في رحابهم، لتقدم لكم أسبوعيًا "شخصية الأسبوع"، كي تلقي الضوء وتقول شكرًا لمن يستحقون التكريم، والذين لولا جهودهم، ما عرفنا للمستقبل طريقاً...
وشخصية هذا الأسبوع هو الراحل غازي القصيبي، الذي عاش لسبعة عقود كان فيها السياسي والبروفيسور والمحامي والأديب والشاعر، وشغل العديد من الوظائف الهامة في المملكة، وكتب الأعمال الأدبية المتنوعة.
طفولة كئيبة وتعليم متميز
"أجل نحن الحجاز ونحن نجد
أجل نحن الحجاز ونحن نجد
هنا مجد لنا وهناك مجد"
في الـ 2 من مارس عام 1940، وُلد غازي، الولد الرابع لعبدالرحمن القصيبي، وأصغر أبنائه، في بيت بمنطقة الأحساء شرقي المملكة، إلا أن الرضيع خاض أولى تجاربه مع الحياة مبكرًا، عندما توفيت أمه، لينشأ بعدها بين قطبين متضادين، حنان الجدة، وصرامة الأب، وهما القطبان اللذان أثرا عليه مستقبلًا.
ورغم تأثير الضدين الإيجابي عليه، إلا أنه حين تحدث عن طفولته، وصفها بالكئيبة، وقد قضى سنوات عمره الأولى في الأحساء، وانتقل بعدها إلى المنامة بالبحرين، وهناك درس خلال مراحل التعليم ما قبل الجامعي.
وكانت مرحلة التعليم الجامعي للقصبي وما بعدها، نقاطاً فارقة في مسيرته، فنال ليسانس الحقوق من جامعة القاهرة، ثم حصل على درجة الماجستير في العلاقات الدولية من جامعة جنوب كاليفورنيا، ثم حصل بعدها على الدكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة لندن البريطانية عبر أطروحة قدمها عن اليمن عام 1971م.
المعلم النابغ والوزير الناجح
"بعضُ الدروب إلى الأوطان راجعةٌ
وبعضُها في فضاء الله يَنْسَابُ"
بعد حصوله على إجازة القانون من جامعة القاهرة، عاد إلى المملكة، ليتولى أولى مهامه المهنية، وفيها شغل منصب أستاذ مساعد في كلية العلوم الإدارية بجامعة الملك سعود في الرياض عام 1965، إضافة إلى عمله كمستشار قانوني في مكاتب استشارية في وزارة الدفاع والطيران، وزارة المالية، ومعهد الإدارة العامة.
في عام 1971، نال القصيبي، منصب عميد كلية التجارة في جامعة الملك سعود، ثم عُين مديرًا لـلمؤسسة العامة للسكك الحديدية في 1973م، وهو المنصب الذي مهد لدخوله مجلس الوزراء عام 1976، كوزير للصناعة والكهرباء، ثم وزيراً للصحة في 1982.
سفير المملكة
"جميع المطارات عندي سواء
جميع الفنادق عندي سواء
وكل ارتحال قُبيل الشروق
وبعد المساء
سواء"
نزولًا على رغبته عُيّن غازي سفيرًا للمملكة في البحرين، ثم سفيرًا للمملكة لدى بريطانيا عام 1992، ثم عاد وزيرًا للمياه والكهرباء عام 2003، ثم وزيرًا للعمل عام 2005.
الأديب والكاتب غازي
وفي فترة انتقاله بين كرسي الجامعة وكرسي الوزارة وكراسي السلك الدبلوماسي، برز نجم غازي القصيبي، كأحد أهم الأدباء السعوديين، يكتب في الشعر والرواية والقصة إضافة لمؤلفات علمية واجتماعية، فتجاوز إسهامه في الشعر والرواية 60 مؤلفًا، ولعل أبرز العناوين التي قدمها: شقة الحرية، حياة في الإدارة، العصفورية، سعادة السفير، الجنية، العودة سائحًا إلى كاليفورنيا، حكاية حب، وآخرها نشرت بعد وفاته بفترة وجيزة وهي أقصوصة الزهايمر.
إضافة إلى دواوين "الشرق والصحراء" الصادر في 1971 والذي قام بتقديمه شعرًا باللغتين العربية والإنجليزية، وديوانه الثالث "معركة بلا راية"، كذلك ترجمته أحد أعمال الكاتب إيريك هوفمان إلى العربية بعنوان "المؤمن الصادق".
وعن الصحافة فقد اقتحمها أيضًا، في عين العاصفة، أو عين حرب الخليج الثانية، وجعل من عين العاصفة، عنوانًا لسلسلة مقالاته التي نُشرت في "الشرق الأوسط" في ذلك الوقت.
وإذا أردت التعرف أكثر إلى الشاعر والكاتب والروائي والقاص، عليك أن تدرك كيف يخط قلمه في السياسة والتنمية، وإجابتك موجودة في مؤلفات "التنمية.. الأسئلة الكبرى"، و"عن هذا وذاك"، و"باي باي لندن" ومقالات أخرى.
وهو ما جعل معاصريه يرونه في وزن الأديب المصري الراحل طه حسين، إذ أسهم في التحوّل من عالم التقليد والرؤية السحرية إلى العالم الحديث والفكر الحديث، فيما يرى بعضهم أنه من الممكن أن ينال لقب كبير المثقفين العرب عن جدارة واستحقاق.
وجوه كثيرة
"وكل الوجوه
تطاردني عند كل وداع
تلاحقني عند كل لقاء
سواء"
ربما كان للقصيبي ألف وجه، لكنه لم يكن مرائيًا، فوجه لأستاذ الجامعة ووجه للوزير ووجه للطالب ووجه للطفل، ووجه للقصيبي صاحب العمل الخيري الإنساني، حين أسس أول جمعية خيرية للمعاقين، هي الأولى من نوعها في المملكة، كذلك حين قرر العمل آخر 30 عامًا في حياته بلا مقابل مادي.
ويمكن أن يكون أيضًا هناك وجه للرجل الذي حاز الأوسمة الرفيعة، والتكريمات داخل المملكة وخارجها، كوسام الملك عبد العزيز، ووسام الكويت للطبقة الممتازة عام 1992.
إذا رحلت لم يبق إلا الشاعر
"وحين أغيب
وراء المغيب..
يقولون: كان عنيدا
وكان يقول: القصيدا
وكان يحاول شيئا جديدا
وراح وخلف هذا الوجودا
كما كان قبل غبيا بليدا
ففيم العناء؟"
ورغم كون القصيبي قد أكد في تصريحات صحفية قُبيل وفاته، بأنه إذا رحل لن يبقى منه سوى القصيبي الشاعر، إلا أنه يُذكر الآن بكل منصب تولاه وكل كتاب وكل قصيدة، وها هو يرحل ويبقى منه القصيبي الإنسان بكل منجزاته.
كل هذا وأكثر يمكن أن يطلع عليه المحب الراغب في التعرف إلى القصيبي، عبر سيرته الذاتية المسجلة في كتابه "حياة في الإدارة"، الذي تناول حياته الوظيفية وتجربته في الإدارة وتسلم المناصب الحكومية، وسلّط الضوء خلاله على أبرز منعطفات حياته.
أبناؤه ومثواه الأخير
كان لـ"القصبي" ابنة و3 أبناء، وقضى أياما قبل وفاته في مستشفى الملك فيصل التخصصي في الرياض، وفي 15 أغسطس 2010، نعى الديوان الملكي، الدكتور غازي القصيبي عن عمر ناهز الـ 70 عامًا، إثر أزمة صحية عانى منها طويلًا، وتم دفن جثمانه في مقبرة العود بالرياض.