بإصرار من الموحد الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن استطاعت السعودية أن تصنع في عام 1933، بتوقيع اتفاقية الامتياز للتنقيب عن النفط، أعظم حدث غيّر تاريخ الدولة الجديدة ومهد لاقتصاد كان له التأثير في العالم أجمع، وجعل باطن أراضي المملكة الأغنى في العالم.
لا يمكن التحدث عن اقتصاد المملكة وتاريخه إلا وتكون قصة اكتشاف النفط هي الحدث الرئيسي فبعده تغيرت قواعد اللعبة بالمنطقة وأصبحت المملكة الدولة الأولى في قطاع الطاقة يؤخذ صوتها في الحسبان ويحسب لقرارها ألف حساب، فكيف بدأت الحكاية وما قصة بئر 7 التي كانت بداية هذا الخير.
في ربيع 1930 كان الجيولوجي الأمريكي فريد ديفيس يصعد قمة جبل دخّان في البحرين، قبل أن يرى بطرف عينه تلالا داكنة في الغرب خلف البحر فيما يعرف الآن بالظهران، وكانت اللحظة العبقرية التي وضعت اللبنة الأولى للشروع بتدابير اكتشاف النفط السعودي.
سارع الجيولوجي الأمريكي بإرسال برقية لشركة ستاندار أويل أوف كاليفورنيا في سان فرانسيسكو تقول: "إذا كان هناك نفط بالبحرين فالأرض الغربية خلف البحر مكان محتمل لوجوده أيضا"، لتبدأ رحلة كتابة أول سطر من سطور قصة اكشاف واستخراج الذهب الأسود بالمملكة والذي كان "باب الخير" على المملكة والمنطقة والعالم.
في السنة ذاتها حطت رحال ضيف مهم في جدة هو الثري الأمريكي والسياسي تشارلز كرين الذي اقترح على الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود السماح له بالتنقيب، وبالفعل أرسل الجيولوجي الأمريكي كارل تويتشل للشروع في تدبير الأمر، وآنذاك كان الملك المؤسس بفطنته وعزيمته، الوحيد الذي لديه قناعة بوجود النفط، رغم إصدار البريطانيين رأيهم بأنه لا يوجد نفط في أراضي المملكة.
في أبريل 1931 بدأت رحلة تويشتل من جدة للأحساء وقطع 1600 كيلومتر على متن شاحنات فورد وقوافل الجمال وأبلغ الملك بعد هذه الرحلة أنه يتوقع وجود النفط في واحة الأحساء، لكنه نصح بالتريّث حتى تظهر نتائج بئر البحرين رقم 1 التي تحفرها شركة بابكو، وجرى بالفعل اكتشاف النفط بالبحرين على عمق 670 متراً في مايو 1932.
الاكتشاف الذي جرى في البحرين غير قناعات الشركات وأصبح الملك عبد العزيز هدفا لعروض من شركات مختلفة بعد سنين من خيبة الآمال، ففي 29 مايو 1933 وقع وزير المالية آنذاك عبد الله السليمان مع ممثل شركة ستاندارد أويل أوف كاليفورنيا، لويد هاملتون اتفاقية في قصر خُزام، بعد توحيد المملكة بأقل من عام.
آنذاك، كان الملك يرى بحصافة أن عصر بريطانيا العظمى ولّى إلى غير رجعة ولذلك فضّل الشراكة مع الأمريكان، وبدأ العمل، وفي نوفمبر من عام 1933 تأسست شركة "سوكال" وهي الشركة الأمريكية العربية للزيت الاسم القديم لشركة أرامكو، وهنا جاء دور الرجل الثالث الذي يعد الأهم في تاريخ استكشاف النفط وهو ماكس ستاينكي كبير جيولوجيي سوكال.
ستاينكي استعان بديفيس عام 1934 ووضع كومة حجارة على تلة في الظهران، فيما عُرف بقُبَّة الدمام، ولم يمض وقت طويل حتى حدد مكان حفر أول بئر "بئر الدمام رقم 1" في 30 أبريل 1935، وبعد 7 أشهر ظهر الزيت في "رمال الخير" على عمق 610 أمتار بكميات غير تجارية، لكن تأكدت فرضية ديفيس القديمة وأصبح حفر المزيد من الآبار مبرّرا.
وفي 8 فبراير 1936 بدأ العمل على حفر بئر الدمام رقم 2، وما أن جاء يوم 11 من مايو من نفس العام حتى وصل الحفر إلى عمق 633 متراً، وتدفق الزيت منها بمعدل 335 برميلاً باليوم، وبعد المعالجة بالحامض، بلغ إنتاج الزيت المتدفق من البئر 3840 برميلاً يومياً، شجع ذلك على حفر آبار الدمام 3 و4 و5 و6 دون انتظار التأكد من أن الإنتاج سيكون بكميات تجارية أو التعرف على حجم الحقل المكتشف.
بعد عام من حفر 6 آبار كانت الكميات كلها غير تجارية ولا تقترب من إنتاج بئر البحرين الذي بلغ 30 ألف برميل في اليوم، وفي ظل أزمة مالية طاحنة على مستوى العالم قرّرت الشركة وقف كل أشكال الحفر بكل الآبار وتخصيص كل الموارد للحفر في بئر واحدة هي البئر رقم 7.
رغم حدوث بعض العقبات، انطلق الحفر بالبئر رقم 7 في ديسمبر 1936 ليستمر التحدي، وفي أكتوبر من العام التالي شاهد الحفارون البشارة الأولى 5.7 لتر من النفط في طين الحفر المخفف العائد من البئر، مع بعض الغاز، وفي 3 مارس 1938 أعلن الاختبار التجريبي دخول المملكة عصر جديد إذ بدأت البئر إنتاجها على عمق 1500 متر تقريبا، وذلك بعد 5 سنوات من البحث والإصرار مدعومة بعزيمة الملك أثبتت للعالم أن أراضي المملكة هي الأغنى في العالم.
وبدأت البئر في الإنتاج بـ1585 برميلًا في اليوم، ثم ارتفع الرقم إلى 3690 برميلًا في السابع من مارس، وسجل إنتاج البئر 2130 برميلًا بعد ذلك بتسعة أيام، ثم 3732 برميلًا بعد خمسة أيام أخرى، ثم 3810 براميل في اليوم التالي مباشرة، واستمرت تلك البئر في التدفق وكأنها سحابة تهاطل ماؤها، إلى أن بلغ إنتاجها ما يقارب 18000 برميل يوميا، قبل أن تُستبعد من قوائم الآبار المنتجة عام 1982 لأسباب تشغيلية، بعدما أنتجت ما يقارب 32 مليون برميل من النفط.
وتتويجاً للعصر الجديد، ذهب الملك عبدالعزيز في ربيع 1939م يصحبه وفد إلى الظهران، مجتازاً صحراء الدهناء ذات الرمال الحمراء حتى وصل إلى مخيم الشركة، ليجد مدينة من الخيام في مكان الحفل، حيث أقيمت مدينة بالقرب من المخيم، قوامها 350 خيمة، لتكون مركزاً للاحتفالات التي تضمنت زيارة الآبار، وإقامة الولائم، واستقبال وفود المهنئين، والقيام بجولات بحرية في الخليج العربي.
وتزامن توقيت زيارة الملك عبدالعزيز وهي أول زيارة له بعد اكتشاف النفط، مع اكتمال خط الأنابيب الذي امتد من حقل الدمام إلى ميناء رأس تنورة، بطول 69 كيلومتراً، حيث رست ناقلة النفط التي أدار الملك عبدالعزيز الصمام بيده لتعبئتها بأول شحنة من النفط السعودي، وهكذا كانت هذه أول شحنة من الزيت الخام تصدرها المملكة على متن ناقلة في الأول من مايو 1939.
بعد بئر الخير فُتح باب الخير، واكتشفت المملكة حقل بقيق، وتم اكتشاف حقل الغوار العملاق، وحقول أخرى كثيرة برية وبحرية، وتوالت السنون وازدهر إنتاج النفط، وتعددت الآبار التي أخرجت للبلاد ما حباها الله من خيرات من باطن الأرض، حتى أصبحت المملكة أكبر دول العالم المصدرة للنفط بأكثر من 10 ملايين برميل يوميًا، وتتوفر بها احتياطيات تُقدر بنحو 266 مليار برميل.
استخدم الملك عبد العزيز ومن بعده أبناؤه الملوك، الأموال العائدة من النفط في تحديث المملكة، فمع بدء استخراج النفط، كانت الحاجة ماسة إلى إنشاء ميناء على ساحل الخليج العربي، ووسائل نقل آمنة وسريعة ومستدامة وقليلة التكلفة، فوجهت حكومة المملكة بإنشاء خط حديدي، لنقل البضائع بأقل تكلفة، وأكثر سرعة من السيارات.
ففي أكتوبر 1947م أمر الملك عبدالعزيز بتنفيذ خط حديدي بين الرياض التي تعد مركزاً تجارياً والدمام كونه ميناء ومركز استقبال البضائع، وبعد سنوات قليلة دشن الملك عبدالعزيز عام 1951م أول خط حديدي الرياض - الدمام في حفل حاشد بالرياض.
وبتوجيه من الملك المؤسس أنشئ ميناء الملك عبدالعزيز على ساحل الخليج العربي في عام 1950م وهو الميناء الرئيس للمملكة، ويعد شريانًا حيويًا للتصدير والتوريد ومرور البضائع من مختلف أنحاء العالم إلى مناطق شرق ووسط المملكة، حيث كُلفت شركة أرامكو بإنشائه تلبية لاحتياجات صناعة النفط المتنامية في المملكة.
كما تم افتتاح خط التابلاين الذي يعد أكبر خط أنابيب نفطي في العالم عند تدشينه، حيث افتتح الخط في عام 1950م بهدف نقل النفط للأسواق الأوروبية عبر البحر الأبيض المتوسط، حيث امتد من شرق المملكة مرورًا بشمالها وصولا إلى مدينة صيدا في لبنان، عابرا أراضي المملكة والأردن وسوريا ولبنان، واستمر تشغيل الخط نحو 40 عامًا قبل أن يتوقف عن العمل في عام 1990م.
وبفضل الإدارة الحكيمة للنفط، فَتحت المملكة الجَامِعات وعَمّمت التعليم وطوّرت المواصلات وصارت بعد سنوات قليلة من اكتشاف النفط الرافعة الأساسية للدول العربية في الأزَمَات، وعضواً في مجموعة العشرين وتمتلك صندوق ثروة سيادياً يعمل على تطوير المشاريع الاقتصادية والسياحية والرياضية، وباتت من أقوى 20 اقتصاداً مؤثراً على مستوى العالم، وتحظى بمراكز متقدمة في أغلب المؤشرات العالمية، وتضاعف أعداد السياح القادمين لها، إضافة إلى أن المملكة تُعد محورًا يربط بين ثلاث قارات، وتمر بها طرق بحرية هي الشريان البحري للعالم، ما يجعلها تتميز بموقع جغرافي استراتيجي ومكانة عالمية.
وتستمر مسيرة التطور والبناء برؤية المملكة 2030 التي دخلت عامها الثامن، مضيئة طريقًا جديدًا ينمو فيه الوطن والمواطن، ويُسهم في توفير فرص النجاح للأجيال القادمة، مرتكزة على مكانة ثقافية أصيلة ضاربة جذورها في عمق التاريخ، وقدرات استثمارية هائلة تُمكّن من الانطلاق نحو آفاق اقتصادية جديدة بتنمية الاقتصاد وتنويع مصادر الدخل.