وسط الصحراء السعودية تحتفظ قرية سعودية بأسرار صناعة البيوت المتنقلة (الكرفانات) دون غيرها من القرى، وتستقبل عشرات الوفود من مختلف دول الخليج الذين يبحثون عن أفضل المواصفات لهذه البيوت.
هنا في شوية التي تبعد عن العاصمة السعودية الرياض نحو 200 كيلومتر – شمال شرق – وتقع على أطراف صحراء الدهناء الشهيرة، يجري العمل على مدار الساعة لتجهيز عشرات الكرفانات بمختلف المقاسات والتصاميم، بشكل يلفت الانتباه.
أول ما تبادر إلى ذهني لدى وصولي برفقة زميلي المصور مسفر الدوسري إلى هذا المكان، ماهو السر الذي دفع هذه الصناعة إلى التطور في هذا المكان بالذات؟ لماذا لم تصنع هذه الكرفانات في الرياض؟ بل لماذا يبدو هذا المكان متواريا عن الأنظار على الرغم من كل هذه الأهمية الاقتصادية؟
القرية التي يقطنها نحو ألفين من السكان يبدو أنها تعتمد بشكل غير مباشر على هذه الصناعة، حيث تعمل عمالة أجنبية في تصنيع الكرفانات. وهنا يقول محمد وهو شاب التقيته بالقرب من مكان التصنيع إن هذه الورشة التي أراها يمكلها سعوديون، لكن العمالة أجنبية بالطبع. طريقة التملك والعمل لا تختلف كثيرا عن بقية الأعمال التجارية في السعودية حيث يملك المواطن المكان بمقابل مالي، ويعمل الوافد العمل الفني والتجاري باقتدار، تبدو العملية أمرا مفروغا منه على كل حال.
لكن محمد لا ينسى أن هناك فوائد أخرى لهذه الصناعة في القرية ''يأتينا العشرات ممن يبحثون عن هذه البيوت، من دول الخليج، الشيوخ كما تعرف يحبون الصحراء ويرغبون في هذه البيوت المتنقلة، وهذا يعطي القرية دافعا اقتصاديا أكثر من القرى الأخرى''. سألته: محمد لكن يمكن صناعة هذه البيوت في الرياض أو الدمام أو في أي منطقة صناعية أخرى، فقال: دعني أبوح لك بسر. بالطبع فإن السر الذي يباح به لصحافي مثلي سيكون على الورق كما تقرأون وليسامحني محمد الذي ابتسم عندما علم بأني صحافي أبحث عن المعلومة.
يقول محمد إن هناك عدة أسباب لازدهار هذا العمل في هذا المكان، أولا كونه في الصحراء، وبالتالي فإنه أقرب لهواة البر والصحراء، ثم إن نقل هذه البيوت أسهل وتحريكها أكثر سلاسة، حيث لا طرق رئيسية، ولا حركة مرورية يمكن أن تعيقها، ثم إن البيوت يمكن بيعها مرة أخرى هنا وتجديدها واستخدامها مرة أخرى. تبدو أسبابا واقعية جدا .. لكن ما لم يقله محمد أن الاشتراطات هنا أقل، ونعني اشتراطات البلدية وغيرها من الجهات بالنظر لكونها قرية لا توجد فيها بلدية.
وهنا يشير شاب آخر، إلى أن أهل القرية حرصوا كثيرا على تسهيل ظهور هذه الصناعة بالدفاع عنها بكل السبل المتاحة.. لكنه يقول: ماذا بعد؟ قلت له ماذا تقصد فقال: الآن كثير من أبناء القرية في سن العمل، وتطوير هذا المكان، ودعمه من خلال المؤسسة العامة للتدريب الفني والتقني سيكون مفيدا لأهالي القرى الأخرى .. هل تتوقع أن يبقى الأجنبي إلى النهاية .. بالطبع لا .. والحديث هنا للشاب الذي لم يرغب ذكر اسمه. قبل أن أغادره إلى عمالة مشغولة بالتلحيم والتصنيع قال: يا أخي في كل دول العالم تدعم القرى والأسر والأرياف التي تبرز في صناعة أو تجارة مميزة، لماذا لا تقيم الهيئة العامة للسياحة مهرجانا للكرفانات.. ذلك سيحرك الاقتصاد ويجلب لنا فوائد كثيرة.. كما يصنع مصنعو اليخوت والسيارات الفارهة وغيرها. يبدو طلبه جيدا .. لكن ماذا عن الآذان الصاغية؟؟
ولجت إلى ورش التصنيع فقابلني العم نسيب – واسمه المفضل والمعروف هنا هو نسيب الباكستاني – تبدو على ملامحه آثار الزمن وقصة الكفاح حيث يبلغ من العمر نحو 70 عاما، والشيب يطوق وجهه. يبدو أقل حركة من البقية، يوجه العمل بالنظرات إن جاز لي التعبير. وتبين لي فيما بعد أنه حضر للزيارة فقط وإلا فإنه قد غادر إلى بلاده قبل عدة سنوات. سلمت عليه، فبدا وكأنه يعرفني .. قلت له مرحبا .. فقال: أهلا بك .. حياك الله .. حتى لهجته تبدو أكثر قربا من أهل القرية التي ارتبط بها لأكثر من 35 عاما.
سألته عن البداية فقال إن شوية كانت قرية عادية كأي قرية وكان عمله في بداية الأمر حدادا بسيطا في ورشة صغيرة ولم يكن عمله ذي جدوى أو دخل مناسب في هذه القرية خلال تلك الفترة، وبين أن الفكرة جاءت بعد مشاهدته للكرفانات الصغيرة المستوردة التي تسحب بالسيارات العائلية، وتمر بجوار القرية .. هنا بدأت الفكرة تأخذ وضعا مختلفا خاصة مع طفرة السبعينيات التي ارتفعت على إثرها دخول كثير من السعوديين.
وقال نسيب الذي يحضر الآن للسلام على أبنائه فقط ويطمئن على العمل حيث حضر هذه المرة للحج وسيغادر خلال الأيام المقبلة بعد أن يختم زيارته بأداء العمرة، إنه أول من قام بصناعة كرفانة، لكن الكرفانات آنذاك لم تكن بالشكل المتعارف عليه في الوقت الحالي لا في الشكل ولا في الحجم ولا في المواصفات التي تتمتع بها الكرفانات في الوقت الحالي.
وعن سبب انتشار صناعة الكرفانات في هذا القرية بالذات قال:''إن معظم أهل القرية بعد أن شاهدوا الإقبال الكبير على طلب هذه النوع من صناعة العربات خلال الأعوام الماضية قاموا بتقليد صناعته. من جهته قال الابن الأكبر للعامل نسيب ويدعى محمد نسيب:'' إن والدنا أوكل لنا العمل قبل 15 عاما فنحن نعمل مع مجموعة من أبناء عمومتنا وبعض أقاربنا وبعض العمال من الجنسيات الأخرى فنحن من نتولى حاليا زمام الأمور بعد أبينا في صناعة الكرفانات في هذه القرية''،
وأضاف:'' إن معظم عملائنا هم من رجال الأعمال والشخصيات المرموقة وأصحاب الطلعات البرية والرحلات وبعض ملاك الإبل والأغنام الذين يفضلون البقاء لأيام معدودة في البر''. مبينا أن هؤلاء يستعينون بهذه البيوت المتحركة ''الكرفانات'' لأنها أكثر أمانا من غيرها كالخيام حيث تمدهم بالدفئ في أوقات البرد والراحة في أوقت الحر. وقال ابن نسيب:'' إن قرية شوية اشتهرت بهذه الصناعة منذ فترة طويلة وذلك ليس لعدم تواجدها في المناطق الأخرى ولكن لرخص أسعارها مقارنة بالمصانع السعودية الأخرى المنتشرة في المدن وكذلك إلى جودة المواد المستخدمة فسمعة صناعات شوية معروفة على مستوى الخليج وليس فقط بين المواطنين في المملكة وخاصة من قطر والإمارات والكويت.
واشار إلى أن أنواع ''الكرفانات'' كثيرة ومتنوعة، فبناؤها يعتمد على حسب المواصفات المطلوبة من العميل أيا كان سواء من الإفراد أو من الشركات أو من الجهات الحكومية المختلفة، التي تتنوع طلباتها كعربات المستشفيات المختبرات الميدانية، مكاتب متنقلة، غرف اجتماعات، فنادق متنقلة، ورش متنقلة، مراكز متنقلة للتبرع بالدم، غرف عمليات عسكرية متنقلة، مستوصفات ميدانية، عربات الصرف الآلي المتنقلة، مراكز إعلامية، غرف اتصالات ميدانية، دورات مياه متنقلة، مطابخ ومطاعم متنقلة ودكات ومجالس متنقلة، وهذا كله على سبيل المثال لا الحصر وحسب المواصفات التي يطلبها العملاء الأفراد غالبا فهم يطلبون غرف الطعام وغرف نوم وجلوس ودورات مياه ومطابخ كما توجد هناك صيانة كاملة لما ذكر.
ولفت إلى أن تكلفة بناء ''الكرفانات'' تعتمد على عدة أمور منها الطول والديكورات الداخلية والغرض الأساسي منها قائلا:'' إن أسعارها تتراوح بين الـ 20 ألفا للصغير وحتى إلى 400 ألف ريال للأنواع الكبيرة، إلا أن معظم عملائنا من الفئة التي تطلب ''كرفانات'' بأسعار متوسطة من 40 ألفا إلى 100 ألف ريال وحول إحجامها ومقاساتها قال:'' تختلف المقاسات ولكن في معظم الأحوال لا يزيد العرض دائما عن أربعة أمتار وأما من ناحية الطول فإنها بحسب الطلب حيث نصل إلى طول 26 مترا أو أكثر، مشير إلى أن الزيادة في الطول تكون متعبة كثيرا للعميل من حيث مشيها في الطرقات ومن حيث التكلفة المادية''، وأضاف أن هذه الصناعة تشهد إقبالا كثيفا قبل فترة الربيع حتى تكون جاهزة للعملاء وقت الربيع الوقت المحبب للكثير من الناس.
وأوضح ابن نسيب، أن هذه الصناعة أسهمت في دفع الكثيرين إلى اللجوء إليها بسبب ما تمنحه لهم من مكان آمن وراحة أكبر في تلك الصحاري النائية مما دفع الكثيرين إلى المكوث لأيام أطول أو لربما لأسابيع معدودة ومنحتهم كذلك مساحة أكبر من الحرية والاستمتاع أكثر بالوقت والمكان وأتاحت الفرصة أمامهم للاستمتاع بطبيعة البر وجعلت تنقلاتهم من مكان إلى آخر أكثر يسرا وسهولة متى ما أردوا ذلك وعند الحاجة.
ولفت إلى أن هذه النوع من البيوت المتحركة أسهمت بطريقة غير مباشرة في جذب الكثير من الناس لزيارة العديد من الهجر والمراكز التابعة للعديد من المحافظات بشكل متكرر وخاصة الواقعة بالقرب من المنتزهات البرية مما ساعد على انتعاشها اقتصاديا نوعا ما.