close menu

بيت العنكبوت الأكبر في العالم قادر على تغطية نهر بأكمله

بيت العنكبوت الأكبر في العالم قادر على تغطية نهر بأكمله
المصدر:
بي بي سي

رغم صغر حجم العناكب المنتمية لنوع "عنكبوت لحاء داروين" إلى حد يجعل من الصعب رؤيتها بوضوح من قبل البشر، فإنها قادرة على نسج شبكة من البيوت يبلغ عرضها نحو 25 مترا، وذلك باستخدام إحدى أكثر المواد المعروفة قوة ومتانة على الإطلاق.

إذا افترضنا أنك لا تعاني من "رهاب العناكب"، فإنه يكون بوسعك الإعجاب بتلك الشبكات المعقدة التي تنسجها هذه الكائنات لاصطياد فرائسها. ولكن نوعا بعينه من العناكب ينسج شباكا تثير الإعجاب أكثر من غيرها، فهي تمتد للعديد من الأمتار، وتتألف من ألياف وخيوط حريرية أشد قوة ومتانة من ألياف "كيفلر" الصناعية الأقوى من الفولاذ.

من المعروف أن بيوت العنكبوت تتخذ مختلف الأشكال والأحجام. فالعناكب، على اختلافها، تفضل أنماطا متنوعة في نسج هذه البيوت، لتأخذ شكل أقماع أو أفرخ منبسطة أو أنابيب أو عقد متشابكة ومجدولة من الخيوط، وهو ما يجعل تلك البيوت تنافس أي متاهة ترسمها خيوط الليزر؛ على غرار تلك التي ظهرت في فيلم "مهمة مستحيلة" لتوم كروز. لكن إذا طُلب من أيٍ منّا رسم بيت تقليدي للعنكبوت، فإن غالبيتنا سيرسمه بالشكل الدائري المعروف.

ويُطلق هذا الاسم على بيت العنكبوت الذي يتخذ شكل دائرة كبيرة من الخيوط المتداخلة متصاعدة إلى أعلى، وداخل الشبكة الدائرية، توجد ألياف وخيوط تمتد على شكل نصف قطر في مختلف الاتجاهات. وبداخل البيت الدائري تتباين أنواع الألياف، ما بين قوية أشبه بالسقالات التي تشكل بنيان الشباك، وأخرى دبقة لزجة قادرة على التقاط الفريسة وإبقائها في الفخ.

ولا عجب في أن هذا الشكل التقليدي لبيوت العنكبوت هو المألوف لنا أكثر من سواه، نظرا لأن الكثير من أنواع العناكب تميل لنسج بيوتها على شاكلته. ويشمل ذلك غالبية الأنواع المنتمية لما يُعرف بـ"جنس آرانيداي"، الذي يُعرف عادة باسم "حائكو الشباك الدائرية"، وهو ثالث أكبر أجناس العناكب الموجودة على ظهر الأرض.

ومن بين بيوت العنكبوت التي تشيع رؤيتها أكثر من غيرها في النصف الشمالي من الكرة الأرضية، تلك التي ينسجها نوع أوروبي يحمل اسم "عنكبوت صليب الحديقة الأوروبية".

ولا يعود هذا الاسم لطباع هذا النوع من العناكب، وإنما لعلامة الصليب بيضاء اللون التي توجد على بطونها بصلية الشكل. ويمكن أن يتجاوز قطر بيوت هذا العنكبوت التي يسهل رؤيتها 40 سنتيمترا. وينسج هذا العنكبوت خيوطه خلال الليل، لتصبح جاهزة لاصطياد الحشرات، التي تتردد عادة على الحدائق خلال ساعات النهار، مثل الذباب والفراشات والدبابير.

وتبدو بيوت العنكبوت هذه أكثر وضوحا خلال فصل الخريف، عندما تتساقط أوراق الشجر الوارفة، التي ازدهرت في الصيف. ففي الخريف، يصل الجيل الجديد من العناكب إلى طور البلوغ، وتُبرِزْ قطرات الندى الخيوط الناعمة للشباك التي تنسجها العناكب، والتي تمتد في أغلب الأحيان بين الشجيرات أو فوق مداخل المنازل.

أما في البقاع التي تسودها درجات حرارة أعلى، فيمكن أن تكون العناكب وكذلك بيوتها أكبر حجما.

وتعود أكبر البيوت التي تنسجها العناكب في أستراليا إلى نوع يُطلق عليه "حائكو الشباك الدائرية" الذهبي، وينتمي لجنس "نفيلا". ويُعزى هذا الاسم للون الذهبي للخيوط الحريرية لهذه البيوت. ويمكن أن يصل قطر دوائر شباك تلك العناكب إلى متر واحد على الأقل، وتمتد بين الأشجار، أو بين الأعمدة التي توضح إرشادات المرور.

وبمقدور تلك العناكب أن تغطي بأرجلها مساحة كف الإنسان، كما أن بيوتها تتمتع بألياف قوية لدرجة أن هناك حالات مسجلة لعناكب ذات حجم ضخم على نحو استثنائي تتغذى على الطيور التي تسقط في شراك شباكها.

وفي عام 2009، استحوذ أكبر أنواع العناكب المنتمية لهذا النوع على العناوين الرئيسية للصحف عندما كشف عنه العلماء رسميا للجمهور. ويمكن أن يصل طول جسم أنثى العنكبوت من نوع "نفيلا كوماسي" إلى أربعة سنتيمترات، بأرجل قد يفوق طولها 10 سنتيمترات. وتنسج تلك العناكب بيوتا عملاقة ربما يفوق طول قطر دائرتها مترا واحدا.

ويندر وجود هذا النوع من العناكب للغاية؛ إذ لم يُعثر عليه سوى في بقعتين فحسب: إحداهما في مدغشقر والأخرى في منطقة مابوتالاند بجنوب أفريقيا.

وخلال عام 2010، أعلن فريق دولي من علماء الأحياء العثور في مدغشقر أيضا على أكبر بيت للعنكبوت في العالم. وأعلن عن الاسم الرسمي لنوع العناكب الذي ينسج هذه البيوت في ذكرى مرور 150 عاما على نشر العالم تشارلز داروين كتابه الشهير "في أصل الأنواع"، ولذا أُطلق عليه اسم "عنكبوت لحاء داروين".

ويصعب فهم السبب الذي حال دون أن يلاحظ البشر وجود هذا النوع من العناكب قبل إعلان العلماء عن اكتشافه. ويمكن أن يغطي البيت الواحد الذي ينسج خيوطه "عنكبوت لحاء داروين" نهرا يبلغ عرضه 25 مترا.

ولنسج مثل هذا البيت، تفرز أنثى العنكبوت من هذا النوع خطا متصلا من الخيوط والألياف على ضفة أحد الأنهار. وتحمل التيارات الهوائية هذه الألياف إلى الجانب الآخر من النهر، لتشكل ما يشبه جسرا بين الضفتين.

وفي وسط هذا "الجسر"، ينسج العنكبوت خيوطه على شكل شبكة دائرية بقطر قد يبلغ نحو ثلاثة أمتار.

وربما يتوقع المرء أن يكون حجم الكائن القادر على نسج شبكة هائلة مثل هذه، ذا أبعاد كائن خيالي عملاق، ولكن الحقيقة أن "عنكبوت لحاء داروين" لا يشبه على الإطلاق "شِلوب"، ذلك العنكبوت العملاق الخيالي الذي ظهر في أحد سلسلة أفلام "ذي لورد أوف رينغز" (سيد الخواتم).

ويقول ماتياز غريغوريتش من الأكاديمية السلوفينية للعلوم والفنون بالعاصمة ليوبليانا، والذي عكف على دراسة هذا النوع من العناكب منذ اكتشافه، إن "طول جسم أنثى عنكبوت لحاء داروين لا يزيد على 1.5 سنتيمتر، أما الوزن فيصل إلى نصف غرام، في حين يكون الذكور أصغر حجما بكثير، إذ تقل أوزانها عن أوزان الإناث بواقع عشر مرات". كما أن أجساد هذه العناكب مموهة، لكي تحاكي شكل لحاء الأشجار، التي تعيش بالقرب منها.

وهنا يثور سؤال حول الكيفية التي تتمكن بها عناكب صغيرة الحجم مثل هذه، من إفراز تلك الكميات الهائلة المطلوبة من الألياف والخيوط لنسج بيوتها الكبيرة للغاية، وكذلك السبب الذي يدفعها لذلك؟
يقول غريغوريتش: " السؤال المتعلق بسبب ضخامة بيوت (هذا النوع من العناكب) سؤال جيد، ولكن ليس لدينا إجابة قاطعة له بعد".

ولإيجاد مثل هذه الإجابة، يعكف هذا الباحث وزملاؤه على بحث العلاقات المرتبطة بالنشوء والتطور بين العناكب، وهو ما ينبغي أن يسلط قدرا من الضوء على كيفية تطوير هذه الكائنات قدرتها على نسج بيوتها.

ويقول غريغوريتش إن لدى كل العناكب المنتمية لجنس " كيروستريس" القادرة، على ما يبدو، على إفراز "خيوط أقوى من نظيرتها التي تفرزها جميع أنواع العناكب الأخرى، كما أن لدى (عناكب هذا النوع) نمطا فريدا بعض الشيء في نسج شباكها".

فبينما تنسج العناكب المنتمية لجنس "نفيلا" بيوتها على هيئة خيوط كثيفة ومتشابكة، وإن كانت أقل جودة في أليافها من تلك التي تنتمي لجنس " كيروستريس "، فإن العناكب المنتمية للجنس الأخير تنسج شباكا أقل كثافة في الخيوط، ولكن بألياف شديدة القوة والمتانة.

ومن شأن اتباع أيٍ من هذين الأسلوبين نسج بيوت قوية قادرة على اصطياد الفرائس. ولكن العناكب المنتمية لنوع "عنكبوت لحاء داروين" تستفيد من نسج بيوتها فوق الأنهار، في اصطياد عشرات من حشرات "اليعسوب" و"ذبابة مايو" وغيرها من الحشرات الغنية بالطاقة، التي تعيش فوق المناطق التي تعلو المسطحات المائية.

وهنا يقول الباحث غريغوريتش: "نفترض أن تضافر هذه العوامل كان سببا في تهيئة تلك العناكب لكي تصبح قادرة على غزو هذا الموئل الفريد من نوعه (للحشرات).

لم ينتفع أي نوع أخر من أنواع العناكب من التيارات الهوائية الموجودة فوق المياه المكشوفة، لذا ربما ارتبط حجم بيت العنكبوت وطبيعة المواد المكونة له بمسألة التكيف مع طبيعة الموئل" الذي تقطنه الفرائس التي يُراد اصطيادها.

ولتحديد مدى صحة هذه الفكرة، يجري علماء الأحياء دراسات على العناكب والألياف والخيوط التي تفرزها. وفي هذا السياق، يستخدم هؤلاء العلماء آلة لاختبار مدى قابلية تلك الألياف للتمدد، في مسعى للتعرف على خصائصها. ويصف غريغوريتش طريقة عمل هذه الآلة بالقول إنها تجذب كل خيط من الخيوط التي يفرزها العنكبوت من طرفيه، وتعمل على مطه ببطء حتى ينقطع "لتقيس بذلك القوة التي يتعرض لها الخيط" خلال حدوثها.
وبفضل هذا الأسلوب، خلص الباحثون إلى أن هذه الألياف أكثر قوة من الفولاذ. كما وُصفت بأنها أكثر المواد البيولوجية المعروفة متانة.

ورغم أن صفتيّ القوة والمتانة تبدوان متشابهتين، فإن ثمة فارقا بينهما. فبينما تقاوم المواد القوية الضغط الواقع عليها، يكون بوسع تلك التي تتصف بالمتانة امتصاص قدر أكبر من الطاقة والضغوط قبل أن تنكسر أو تتحلل.

ويبدو ذلك أمرا ضروريا في أيٍ من البيوت التي تنسجها العناكب، إذ يتعين على كلٍ من ألياف وخيوط مثل هذه البيوت، مقاومة أثر التحركات والضربات التي تصدر من الفريسة، التي تعلق فيها لئلا تخلخل باقي البُنيان.

ويسعى المهندسون للحصول على مواد بنفس هذه القوة والمتانة في جهودهم لتصنيع معدات جديدة؛ على شاكلة سترات مدرعة واقية أو حتى شباكٍ لصيد الأسماك. وقد وضع العلماء نصب أعينهم ابتكار ما يمكن أن يُوصف بـ"ألياف المستقبل"، بالاستفادة من الحرير الذي يفرزه العنكبوت. وفي هذا الصدد، ليس هناك من هدفٍ أكبر من بيوت "عنكبوت لحاء داروين".

أضف تعليقك
paper icon
أهم المباريات