أكد مستشار قانوني أن أهمية اللجوء إلى الوسائل البديلة في حل النزاعات في الوقت الحاضر تكمن في تخفيف العبء الواقع على القضاء في حسم القضايا الناتجة عن النمو المتسارع للأنشطة الاقتصادية وما صاحبها من تطور في وسائل الاتصالات والمواصلات واستخدام وسائل التقنية الحديثة في المعاملات ولا سيما في التجارة والصناعة والخدمات، مضيفا أنة نتج عن ذلك تعقيد وتشابك في المعاملات أديا إلى طول الإجراءات القضائية من مرافعات واعتراضات ومصاريف خبرة وأتعاب رغم ما تبذله الأجهزة القضائية من جهود في التصدي لها ما أدى إلى المطالبة باللجوء إلى وسائل أخرى للفصل في النزاعات بصورة سريعة وفاعلة مع توفر التخصص المهني والحيدة والنزاهة لمن يتولى نظرها.
وقال المحامي والمستشار القانوني د. علي السويلم إنه جراء هذه التبعات وجد التحكيم والصلح والتوفيق والوساطة اهتماما متزايداً لدى مختلف الأنظمة القانونية والقضائية لما توفره هذه الوسائل من مرونة وسرعة في فض النزاعات ولما تحققه من عدالة ورضا بالجهة التي تتولاه بسبب تخصصها وفهمها الدقيق لموضوع النزاع وما تضمنه من مشاركة الأطراف في إيجاد الحلول لمنازعاتهم وحفظ أسرارهم بعدم علنية جلساتها.
وأوضح أن الوسائل البديلة لحل المنازعات تحتل مكانا بارزا على الصعيد العالمي، وقد شهد العالم منذ نحو نصف قرن حركة فقهية لتنظيم الوسائل البديلة، وفي الوقت الحاضر تلعب دورا مؤثرا على صعيد التقاضي، لذا كان من الطبيعي أن تعمل الدول جاهدة لإيجاد إطار ملائم يضمن تقنين هذه الوسائل ثم تطبيقها لتكون بذلك وسيلة فاعلة لتحقيق وتثبيت العدالة وصيانة الحقوق.
الوسائل المساندة للقضاء
وأشار السويلم إلى أن التحكيم هو من أهم الوسائل المساندة للقضاء في حسم المنازعات، فقد عرفت المجتمعات القديمة التحكيم، وهو قضاء خاص في بعض أنواع المنازعات، ويُؤسس على إرادة أطرافه، وكان من أقدم صور العدالة التي عرفها الجنس البشري، قبل معرفة القضاء المنظم الذي تتولاه سلطة مركزية، ويعتبر التحكيم مرحلة أكثر تطوراً بعد أن كان الاحتكام إلى القوة هو الأمر السائد في الجماعة.
ولفت بهذا السياق إلى أن العرب عرفوا التحكيم قبل الإسلام ثم جاءت الشريعة السمحة وأقرت اللجوء إلى التحكيم، لكونه يؤدي إلى إصلاح ذات البين وإزالة الخصومات والتوفيق بين المتخاصمين أو الحكم بينهما ممن رضياه حكماً.
وقد ذهب التشريع الإسلامي في إقرار مشروعية التحكيم أبعد مما ذهبت إليه التشريعات الغربية، التي حصرت نطاق التحكيم في الأموال، بينما شمل التحكيم في التشريع الإسلامي، الخلافات المالية والأسرية وغيرهما، وقوله سبحانه وتعالى: "وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا".
وذكر أن الفقه الإسلامي عني بتنظيم التحكيم تنظيماً دقيقاً، فيما يجوز طرحه على التحكيم وفيما لا يجوز والشروط المطلوبة في المحكم، وهي تماثل شروط القاضي، ما يكفل المستوى الرفيع للمحكمين، ووُجد التحكيم في العصور الوسطى بعد ازدهار التجارة وظهور القوانين التي تنظمها.
وفي العصر الحديث ومع ازدهار التجارة الإقليمية والدولية وتطور وسائل المواصلات والنمو الاقتصادي، اهتمت دول العالم بتنظيم قضاء التحكيم، بل أصدر بعضها قوانين خاصة للتحكيم، وأبرمت المعاهدات الدولية في هذا الشأن وتم تأسيس الكثير من مراكز التحكيم الدولية والإقليمية، منها على سبيل المثال هيئة تحكيم غرفة التجارة الدولية بباريس ومحكمة لندن للتحكيم الدولي وهيئة التحكيم الامريكية، ومركز التحكيم التجاري لدول مجلس التعاون لدول مجلس الخليج العربية ومركز القاهرة الإقليمي للتحكيم.
التحكيم والفقه الإسلامي
ونوه إلى أن مجمع الفقه الإسلامي عرف التحكيم بأنه «اتفاق طرفيْ خصومة معينة على تولية من يفصل في منازعة بينهما بحكم ملزم يطبق الشريعة الإسلامية»، وسبق وأن تضمن نظام المحكمة التجارية الصادر عام 1350ه شروط التحكيم واجراءاته في المواد (493-497)، وفي عام 1365ه صدر نظام الغرفة التجارية مخولاً إياها صلاحية التحكيم في حسم منازعات أعضائها.
ثم صدر النظام الحالي للغرفة التجارية عام 1400ه ولائحته التنفيذية، مؤكداً هذا الاختصاص كهدف من أهداف الغرف، وأعقب ذلك بعدة سنوات صدور نظام التحكيم السابق، متضمناً تنظيماً شاملاً للتحكيم، ملغياً النصوص المتعلقة بالتحكيم الواردة في نظام المحكمة التجارية، المنوه عنه آنفاً، وتلا ذلك إصدار اللائحة التنفيذية له في 8 /9 /1405ه، غير أن التطبيق العملي أظهر قصوراً في بعض أحكامه، أعاقت تحقيق أهدافه، لذا صدر نظام التحكيم النافذ حالياً بالمرسوم الملكي رقم م / ٣٤ بتاريخ ٢٤ / ٥ / ١٤٣٣ه.
وبين السويلم في هذا الخصوص أن صدور نظام التحكيم الجديد يعد ثمرة للجهود التي بذلتها الجهات المختصة لإيجاد نظام تحكيم يلبي متطلبات التنمية ويواكب المستجدات التي تشهدها المملكة في مختلف المجالات الاقتصادية، وقد تضمن حزمة من المزايا لغرض تفعيل خيار التحكيم في حسم المنازعات متميزاً في مرونة إجراءاته مستثنياً منازعات الأحوال الشخصية من الخضوع لأحكامه إضافة إلى عدم شموله للمنازعات التي لا يجوز الصلح فيها وهو ما كان منصوصاً عليه في النظام السابق واتسع النطاق المكاني للمنازعات الخاضعة لأحكامه بأن امتد للتحكيم التجاري الدولي.
كما أنه أخذ بالاعتبار إرادة طرفي التحكيم في العديد من مواده، ونص النظام على أن تكون الهيئة من محكم واحد أو أكثر من محكم على أن يكون العدد فرديا، كما اشترط في المحكم الأهلية وحسن السيرة والسلوك وأن يكون حاصلا على شهادة جامعية في العلوم الشرعية أو النظامية، وأن يكون هذا الشرط متوافراً على الأقل في رئيسها إن كانت هيئة التحكيم مكونة من ثلاثة محكمين أو أكثر.
استقلالية شرط التحكيم
ولفت السويلم إلى أنه تطبيقا لمبدأ وجوب تقديم الدفوع الشكلية قبل الدفوع الموضوعية فقد تضمن النظام نصاً ملزماً بذلك كما أنه أخذ بمبدأ استقلالية شرط التحكيم عن العقد أو الاتفاق الوارد فيه مقرراً استمرار نفاذه في حالة بطلان العقد أو الاتفاق أو فسخه أو إنهائه وأن أهم ما تميز به النظام الجديد للتحكيم هو إضفاء الحماية النظامية على أحكام التحكيم بعدم قبول الطعن فيها بأي طريق من طرق الطعن عدا دعوى بطلان حكم التحكيم وهي حالة ما إذا تضمن مخالفة لأحكام الشريعة الإسلامية أو النظام العام في المملكة أو حالة عدم وجود اتفاق تحكيم أو بطلانه أو سقوطه بانتهاء مدته.
ومع هذه التطورات يرى السويلم أن التحكيم أصبح من الوسائل الملائمة للفصل في مجموعة مهمة من المنازعات، كما هو الشأن في منازعات التجارة الدولية وحماية المستهلك والمنازعات الناشئة في بيئة الانترنت والتجارة الالكترونية والملكية الفكرية في العصر الرقمي وغيرها من المنازعات.
وقال إنه في إطارنا الإقليمي نجد أن اتفاقية فض المنازعات التجارية في مركز التحكيم التجاري لدول الخليج، وقد صدر عام 1423ه قرار مجلس الوزراء متضمناً إقامة مركز التحكيم التجاري لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية وذلك حسب نظامه على ألا يصدر الأمر بتنفيذ الحكم بناءً على المادة (15) من نظام المركز إلا بعد التثبت من عدم وجود ما يمنع تنفيذه شرعاً، وتنص هذه المادة على أن (يكون الحكم الصادر من هيئة التحكيم وفقاً لهذه الإجراءات ملزماً للطرفين ونهائياً وتكون له قوة النفاذ في الدول الأطراف بعد الأمر بتنفيذه من الجهة القضائية المختصة)، وكذلك اتفاقية إنشاء المؤسسة العربية لضمان الاستثمار في الملحق (1) «تسوية المنازعات».
دول الخليج وقانون التحكيم
وذكر السويلم أنة في سلطنة عمان صدر قانون التحكيم في المنازعات المدنية والتجارية، وفي دولة الإمارات صدر قانون الإجراءات المدنية ويتضمن مواد تتعلق بالتحكيم (الباب الثالث)، وفي دولة قطر صدر قانون المرافعات المدنية والتجارية خصص الباب الثالث عشر للتحكيم، بالإضافة إلى قانون قواعد التوفيق والتحكيم بغرفة قطر للتوفيق والتحكيم، وفي مملكة البحرين صدر قانون التحكيم البحريني، وفي دولة الكويت صدر نظام التحكيم.
ويرى السويلم أن اللجوء إلى التحكيم لتسوية النزاعات المترتبة والناتجة عن تنفيذ العقود التجارية والمعاملات المالية من شأنه المساهمة في تحسين مناخ الأعمال في المملكة وتعزيز جاذبيته، بالإضافة إلى أن تشجيع اللجوء إلى الوساطة والمصالحة والتفاوض وغيرها من الوسائل والنهوض بها، مع ما توفره من آفاق إيجابية من حيث مرونتها وقلة تكاليفها على المدى البعيد، سيسهم دون شك في تنمية الاستثمارات الوطنية والأجنبية والمساهمة في خلق المناخ الملائم لقطاع الأعمال في المملكة.