"يوميات الشيطان" إنها ليست رواية مرعبة لأديب مبدع، ولكنها مذكرات ألفريد روزنبرج، العقل المدبر والمغذي الرئيسي لفكر الزعيم النازي أدولف هتلر والمنظر للجرائم النازية التي اختفت في ظروف غامضة بعد أن وقعت في يد المخابرات الأميركية.
مخزن الأسرار
يطل القصر على الجبال الممتدة في الأفق على امتداد الريف البافاري. كان القصر يعرف باسم "جوتيس جارتن" أو "حديقة الإله".
من بين تلك القرى والمزارع الممتدة بامتداد النهار، استحقت دير شلوس بانز اهتماماً خاصاً. فالأحجار المنتشرة التي تشبه الذهب اللامع مع سقوط أشعة الشمس عليها، وهذان البرجان من النحاس يرتفعان عالياً فوق كنيسته ذات الطراز الباروكي جعلت منه مميزاً للغاية.
يمتد تاريخ المكان إلى أكثر من ألف عام، كمركز تجاري، وكقلعة حصينة ضد الجيوش المعادية، وكدير للبنديكتين، وقد نُهِب ودُمِر بالكامل في إحدى الحروب، ثم أعيد بناؤه من جديد على يد عائلة فيتلسباخ المالكة، وفق ما نشرت صحيفة ديلي بيست الأميركية، 27 مارس/ آذار 2016.
الملوك والدوقات، حتى القيصر فيلهلم الثاني، آخر إمبراطور في تاريخ ألمانيا، دائماً ما دخلوا إلى قاعاته الفخمة. وفي فصل الربيع من عام 1945، كان المكان مليئاً بمجموعة سيئة السمعة، ممن هدفوا إلى احتلال أوروبا عبر حرب كبرى من أجل مجد الرايخ الثالث.
ومع اقتراب هزيمتهم بعد 6 سنوات من الحرب، قام النازيون في أنحاء ألمانيا بإحراق جميع الملفات الحكومية الحساسة قبل أن يتم ضبطها واستخدامها ضدهم، إلا أن من لم يستطع منهم حرق ما يخصه من أوراق، اتجه للاختباء في الغابات والمناجم والقلاع والقصور، تماماً كهذا القصر الذي نتحدث عنه.
في جميع أنحاء البلاد، كانت هناك الكثير من الأسرار الهائلة التي قام الحلفاء بكشفها، بينها سجلات داخلية مفصلة تظهر قبح البيروقراطية الألمانية بوضوح، وغيرها مما يخص الاستراتيجية الوحشية للجيش الألماني، وكذلك الخطة النازية المهووسة التي تهدف لاجتياح أوروبا ومسح ما تصفه بـ"العناصر غير المرغوبة" للأبد.
في الأسبوع الثاني من أبريل/ نيسان 1945، كان جنود الجيش الثالث الأميركي بقيادة الجنرال جورج باتون وجنود الجيش السابع الأميركي بقيادة ألكساندر باتش قد قاموا بغزو المنطقة. فبعد عبورهم نهر الراين منذ أسابيع قليلة، لم يكن هناك ما يوقف تقدم هؤلاء الرجال في الجانب الغربي من البلد المتداعي في تلك الفترة، ولم يعطل تقدمهم سوى بعض الجسور المهدمة والحواجز، وبعض المقاومة العنيدة، إلا أنهم تمكنوا في النهاية من المرور عبر المدن التي دمرتها قنابل الحلفاء مسبقاً. خلال مرورهم على القرى وسكانها، كان كل ما يرفعه هؤلاء هو ورقة أو قطعة قماش بيضاء، وليس الصليب المعقوف النازي على الإطلاق، حيث كان الجيش الألماني نفسه في ذلك الوقت قد تفكك بالكامل، حيث سيموت هتلر بعد ثلاثة أسابيع ونصف فقط.
الصفقة
بعد وقت قليل من وصول الأميركيين إلى المنطقة، واجهوا تلك الأرستقراطية المصقولة التي ترتدي نظارات وأحذية عالية لامعة.
من بين هذه الأرستقراطية كورت فون بير الذي قضى فترة الحرب في باريس، وقام خلال تلك الفترة بنهب الكثير من الأعمال الفنية والمفروشات الثمينة التي يمتلكها عشرات الآلاف من اليهود في فرنسا وبلجيكا وهولندا.
قبل تحرير باريس بفترة قصيرة، فر الرجل وزوجته إلى بانز محملاً بأطنان من الكنوز المسروقة، في قافلة تكونت من عشر سيارات وأربع شاحنات.
وهنا، أراد فونبير عقد صفقة. عندما اقترب من مدينة ليشتنفلز البافارية، قام بالاتصال بضابط أميركي حكومي يدعى صامويل هابر، حيث لم يعتد بير سوى على حياة الملوك تحت تلك الأسقف المزخرفة بعناية ودقة داخل القصور.
كانت الصفقة تقضي بأن يسمح هابر لبير بالبقاء، مقابل أن يطلعه على الكثير من الأوراق النازية بالغة السرية.
أصيب الضابط الأميركي بحيرة شديدة، حيث كان العمل المخابراتي على أشده في تلك الفترة، وكانت المحاكمات على جرائم الحرب تبدو واضحة في الأفق، حيث أمرت قوات الحلفاء بتعقب وحفظ أية وثيقة لها علاقة بالنازية يمكن العثور عليها. كانت هناك فرقة استخباراتية خاصة مع قوات باتون تقوم بهذا الغرض تحديداً. وفي شهر أبريل/نيسان من العام ذاته فقط، استطاع أعضاء تلك الفرقة جمع ثلاثين طناً من الأوراق النازية.
مع تلميحات بير، شق الأميركان طريقهم نحو الجبل وعبر البوابات المختلفة وصولاً إلى ذلك القصر لمقابلته. هنا، قام الرجل النازي باصطحابهم إلى ما يبلغ خمسة طوابق تحت الأرض، وخلف جدار وهمي من الخرسانة، كان يوجد الجزء الأهم والأكثر سرية من الوثائق النازية. ملأت تلك الملفات قبواً ضخماً، في حين انتشرت بعض الأوراق المتناثرة الأخرى في أكوام داخل الغرفة.
الموت بالخمر الفرنسي
بعدما قام بير بتسليمهم السر، أدرك أن مناورته تلك لن تخلصه من ويلات الهزيمة الألمانية، لذلك قرر الانتحار. ارتدى أحد أزيائه باهظة الثمن، واصطحب زوجته إلى غرفتهما داخل القصر. وبعدما احتسيا كأسين من الخمر الفرنسي الممزوج بمادة السيانيد السامة، تذوق الزوجان طعم النهاية أثناء شرب ذلك الكأس.
ووصف أحد الأميركيين المشهد قائلاً إنه كان مليئاً بكل عناصر الميلودراما التي تمتع بها القادة النازيون.
وجد الجنود فون بير وزوجته ميتين وسط ذلك القصر الفاخر. وبفحص جثتهما، كانت الزجاجة مازالت موجودة ونصف ممتلئة على الطاولة، حيث اختار الزوجان زجاجة خمر ثمينة للغاية، تعود لعام 1918 في علامة رمزية، حيث كان هو العام الذي أنهت فيه بلادهم الحرب العالمية الأولى.
أما الأوراق الموجودة في القبو، فكانت تخص ألفريد روزنبرج، فيلسوف الحركة النازية الذي كوَّن عقلية هتلر، وأحد أول الأعضاء في الحزب النازي. كان روزنبرج شاهداً على فترة ولادة الحزب في 1919، عندما اكتشف الألمان القوميون الغاضبون شخصية القائد داخل أدولف هتلر، ذاك القائد المنمق والمحنك بعد الحرب العالمية الأولى.
فيلسوف النازية
في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1923، في الليلة التي حاول فيها هتلر إسقاط الحكومة البافارية، كان روزنبرج يتحرك نحو قاعات ميونيخ الكبرى خلف قائده بخطوة واحدة فقط، وكان في برلين أيضاً بعد ذلك التاريخ بعِقد كامل، عندما كان الحزب قد سيطر على السلطة وقرر سحق أعدائه. وكان بعد ذلك في ساحة القتال، حينما قام النازيون بتغيير شكل ألمانيا بالكامل وفق رؤيتهم. لم يغب روزنبرج عن المشهد حتى النهاية، وتحديداً نهاية الحرب وسقوط الحلم النازي.
في ربيع عام 1945، بدأ المحققون البحث في هذا الكم الهائل من الوثائق، والتي شملت 250 مجلداً من المراسلات الشخصية والرسمية، عندما اكتشفوا شيئاً مميزاً للغاية: مذكرات روزنبرج الشخصية.
كانت تلك المذكرات مكتوبة بخط اليد، ومكونة من 500 صفحة، كان بعضها في ملزمة واحدة، والبعض الآخر أوراقاً منفصلة.
تبدأ تلك التدوينات منذ 1934، أي بعد عامٍ واحد من وصول هتلر للحكم، و من بين كل الرجال المهمين في تصنيف الرايخ الثالث، كان فقط روزنبرج، وجوزيف غوبلز (وزير الدعاية النازية) وهانز فرانك الحاكم الوحشي الألماني على بولندا، هم من تركوا وراءهم مذكرات شخصية. الآخرون، ومن بينهم هتلر، أخذوا أسرارهم معهم عند موتهم.
كانت مذكرات روزنبرج عاملاً مساعداً للغاية في فهم وتسليط الضوء على أعمال الرايخ الثالث من وجهة نظر الرجل الذي بدأ مع الحزب النازي من القاع على مدى ربع قرن من الزمان.
خارج ألمانيا، لم يكن روزنبرج مشهوراً على الإطلاق كغوبلز أو هنريخ هيملر (قائد قوات الأمن الخاصة)، أو هيرمان جورينج (المستشار الاقتصادي لهتلر وقائد قواته الجوية).
كان على روزنبرج أن يكافح ويشق طريقة بين هؤلاء العمالقة النازيين ليصل إلى القوة والنفوذ الذي يرى أنه يستحقه. على الرغم من ذلك، كان روزنبرج يحظى بثقة ودعم الفوهرر (هتلر) من البداية حتى النهاية، حيث واجه هو وهتلر معاً أكثر الاختبارات صعوبة، كان خلالها وفياً دون أن يخطئ ولو لمرة واحدة. لذلك، ولاه هتلر الكثير من المناصب القيادية في الحزب وفي الحكومة، ما رفع اسمه وضمن له تأثيراً كبيراً فيما بعد.
كان أعداؤه في برلين يمتلئون بالكراهية تجاهه، إلا أن درجة وملف روزنبرج في الحزب النازي جعلاه أحد أهم الرموز الألمانية، حيث كان لهذا المفكر الكبير أثرٌ بالغٌ حتى على الفوهرر نفسه. كانت بصمات روزنبرج في عددٍ غير قليل من الجرائم النازية الألمانية.
جرائمه
كان روزنبرج العقل المدبر لسرقة ونهب الأعمال الفنية والمحفوظات والمكتبات من باريس مروراً بخاركوف وكييف، تلك الآثار الشهيرة التي عمل الحلفاء على تتبعها في القلاع والمناجم الألمانية.
في عام 1920، زرع روزنبرج في عقل هتلر، الفكرة القائلة بأن المؤامرة اليهودية العالمية كانت وراء الثورة الشيوعية في الاتحاد السوفيتي مكرراً هذا الأمر دائماً، حيث كان أحد مؤيدي تلك النظرية التي جعلت من هتلر يخوض حرباً مدمرة ضد السوفييت على مدار عقدين كاملين.
ومع تحضير النازيين لغزو الاتحاد السوفيتي في البداية، تعهد روزنبرج لهتلر بأن تكون تلك الحرب بمثابة "ثورة تطوير بيولوجية عالمية" وأن تلك الحرب من شأنها أن "تبيد كل الجراثيم اليهودية وأتباعهم" وفق رؤيته.
ومع أول عام للحرب، عندما تراجع الجيش الألماني في لحظة أمام موسكو، شن روزنبرج حملة كبرى استطاع من خلالها احتلال دول البلطيق وروسيا البيضاء وأوكرانيا، وتعاونت وزارته بشكل كبير مع قوات هيملر في تنفيذ المذابح بحق اليهود شرق ألمانيا.
لم تكن تلك أهم أعمال روزنبرج، فقد كان هو من وضع الأساس الحقيقي للمحرقة النازية، حيث قام بنشر أفكاره المعادية لليهود في 1919 حينما كان رئيس تحرير صحيفة الحزب وكتب الكثير من المقالات والمنشورات والكتب التي تمكّن من خلالها من نشر رسالة الكراهية التي يتبنّاها.
مليون نسخة
في وقت لاحق، أصبح روزنبرج بمثابة مفوض هتلر للشؤون الأيديولوجية، ودائماً ما كان يتم استقباله في أغلب المدن والقرى عبر الرايخ بحشد جماهيري وترحاب شديد، كما باع كتابه "أسطورة القرن العشرين" أكثر من مليون نسخة، كما تم اعتباره -إلى جانب كتاب "كفاحي" لهتلر- بمثابة كتاب الأسس الأيديولوجية للنازية.
في كتابه الضخم، استعاد روزنبرج الأفكار القديمة حول الأعراق والتاريخ العالمي والتي أنتجها غيره من أشباه المثقفين وقام بصياغتها في صورة نظام ومعتقد أيديولوجي سياسي كامل، في الوقت الذي قام فيه قادة الحزب بنشر ذلك الفكر في آلاف الخطابات التي دائماً ما اقتبسوا فيها كلماته. ما وُجِد في مذكرات روزنبرج كان مزيجاً من الفخر والتباهي بتوجيهه المادي والمعنوي للمعركة.
ملهم الإبادة الجماعية
رودولف هيس، قائد معسكر الموت في أوشفيتز هناك في بولندا، حيث تمت إبادة أكثر من مليون شخص، قال أن كلمات ثلاثة رجال بالتحديد كانت سبباً في إعداده نفسياً لتنفيذ مهمته، والرجال الثلاثة هم هتلر، وغوبلز، وروزنبرج.
في ألمانيا النازية، كان لتطبيق فلسفة روزنبرج بشكل عملي عواقب مميتة. كان مما كتبه في مذكراته عام 1936 "مراراً وتكراراً، أنا أصاب بالجنون عندما أفكر فيما فعله هؤلاء اليهود الطفيليون في ألمانيا"، ويضيف "ولكن على الأقل لدي ما يرضيني، وهو أنني قمت بواجبي تجاه الرد على خيانتهم". هنا، كانت أفكار روزنبرج تشرع بقتل الملايين.
في نوفمبر/ تشرين الثاني 1945، عُقدت محكمة دولية غير اعتيادية في نورمبرغ لمحاكمة أعتى النازيين الباقين على قيد الحياة بتهمة ارتكاب جرائم حرب، وكان روزنبرج من بينهم. بُنِي الادعاء في القضية على أساس الكم الهائل من المستندات النازية التي تم العثور عليها بواسطة الحلفاء في نهاية الحرب.
وقد ذكر هانز فريتشه، والذي أدين كمجرم حرب بسبب الدور الذي لعبه في الآلة الإعلامية النازية كرئيس قسم الأخبار في وزارة الدعاية النازية، خلال المحاكمة أن روزنبرج لعب الدور الرئيسي في تشكيل فلسفة هتلر في العشرينيات قبل وصول النازيين للحكم. حيث قال "في رأيي، لقد كان له بالغ الأثر على هتلر أثناء الفترة التي كان هتلر فيها مازال يفكر ولو قليلاً". هكذا تحدث فريشه، والذي حصل على البراءة من محكمة نورمبرغ، إلا أنه حصل على حكم بالسجن لتسع سنوات من محاكمة أخرى لقادة النظام النازي بعد ذلك.
وقال فريتشه خلال المحاكمة أيضاً مفسراً كون روزنبرج المتسبب الرئيسي في محاكمة الباقين "تكمن أهمية روزنبرج في أفكاره، والتي كانت أفكاراً نظرية، قبل أن يحوّلها هتلر إلى واقع عملي.. الأمر المأساوي في الحقيقة هو تحقق أفكار روزنبرج على أرض الواقع".
كيف كانت نهايته؟
في نورمبرغ، قال روبرت جاكسون، المدّعي العام الأميركي بأن روزنبرج هو الكاهن الفكري للنازية العنصرية، قبل أن يقوم القضاء باتهام النازيين وإدانتهم بجرائم حرب.
وفي أكتوبر/ تشرين الأول من عام 1946، انتهت حياة روزنبرج في منتصب الليل بإعدامه شنقاً.
على مدار العقود التالية لهذا التاريخ، حاول المؤرخون فهم الأسباب والكيفية التي حدثت بها أعظم مجازر القرن الماضي من خلال تحليل ودراسة ملايين الوثائق النازية التي عُثر عليها بعد الحرب.
كانت الوثائق المتبقية عبارة عن عددٍ ضخم من السجلات العسكرية، وقوائم مفصلة لعمليات النهب، ومذكرات خاصّة، ووثائق دبلوماسية، بالإضافة إلى محاضر مكالمات هاتفية ومذكرات دونت مناقشاتٍ تقشعر لها الأبدان حول ما حدث من عمليات القتل الجماعي.
أين اختفت مذكراته؟
بعد انتهاء المحاكمات عام 1949، أغلق الادعاء الأميركي مكاتبه في ألمانيا، وقام بشحن كم هائل من الوثائق إلى أحد المصانع القديمة على ضفاف نهر بوتوماك في فيرجينيا، قبل أن تملأ تلك الوثائق فيما بعد الأرشيفات الوطنية الأميركية، حيث قامت بعد ذلك بصناعة نسخ من الوثائق، وإرسال الكثير من النسخ الأصلية مجدداً إلى ألمانيا، إلا أن شيئاً ما قد حدث لمذكرات روزنبرج السرية، فهي لم تصل أبداً إلى واشنطن، ولم تترجم أو تُدرس كاملة بواسطة علماء الرايخ الثالث، فبعد أربع سنوات من الكشف عن القبو الخفي داخل القصر، اختفت تلك المذكرات تماماً.