عندما حصل المنتخب الفرنسي على كأس العالم لكرة القدم مؤخرًا، أثار كثيرون حقيقة أن نسبة كبيرة من أعضائه ليسوا من أصول فرنسية، أو من المجنسين، وتساءلوا عما إذا كانت باريس ستتمكن من الاحتفال بالحصول على الجائزة الكروية الأهم بدون مساهمة لاعبيها الأهم في البطولة، حيث اقتصر أصحاب الأصول الفرنسية الذين خاضوا النهائي على 4 لاعبين مقابل 7 من أصحاب الأصول الأجنبية.
قبول أعلى للمجنسين
وتقليديًا لم تكن فرنسا من كبرى الدول المستقبلة للمهاجرين، على الأقل ليست كدول مثل الولايات المتحدة وكندا وأستراليا، ولكن أعداد اللاجئين والمجنسين تزايدت خلال العقود القليلة الماضية بشكل لافت، حتى أن الفرنسيين أصبحوا الأكثر قبولًا لوجود المجنسين في البلاد، فمعدل الرفض لمجنسين في فرنسا يبلغ أدناه بين الدول المتقدمة بـ35%، بينما تبلغ النسبة نفسها 60% في بريطانيا و50% في الولايات المتحدة وفقًا لإحصائية لـ"بروكينز".
ولا يرجع قبول المجنسين في البلاد في فرنسا لمساهمتهم في الحصول على كأس العالم مؤخرًا بالطبع، ولكن لمساهماتهم في المجتمع، ولا سيما المساهمة ذات البعد الاقتصادي، في ظل ما تؤكده دراسة لـ"المنتدى الاقتصادي العالمي" بأن إنتاجية هؤلاء المجنسين أو من أصول أجنبية تفوق هؤلاء من ذوي الأصول الفرنسية بـ10-15% باختلاف المجالات، وذلك لإحساس هؤلاء بضرورة "إثبات الذات" في المجتمع.
وتزداد أهمية ارتفاع انتاجية المجنسين وأبنائهم في ظل ارتفاع نسبتهم عام 2016 إلى 25%، بينما كانت 12% عام 2005، و6% عام 1995، بما يعكس تزايدًا مضطردًا في نسبة المجنسين يستفيد الاقتصاد من ورائها باستمرار.
ويقبل "المجنسون" وأبناؤهم على الالتحاق بما يعرف بـ"الوظائف الدنيا" أو تلك التي لا تتطلب قدرًا كبيرًا من المهارة بدرجة تفوق "السكان الأصليين"، فكما تشير دراسة لجامعة باريس فإن 90% من عمال جمع القمامة وأكثر من 80% من عمال الصرف الصحي من المجنسين أو أبناء الجيلين الأول أو الثاني لهم، بما لتلك الوظائف من عائدات متدنية مقارنة بغيرها بطبيعة الحال.
رواتب أقل وبطالة أعلى
وبحصولهم على رواتب تقل بـ20% في المتوسط عن "الفرنسيين الأصليين"، تقبل الشركات على توظيف المهاجرين وأبنائهم في كثر من الأحيان، لا سيما في ظل ارتفاع إنتاجيتهم، وعلى الرغم من ذلك تبقى نسب البطالة بين المجنسين أعلى منها بين الفرنسيين بسبب محدودية مؤهلات المجنسين (تعليميًا) مقارنة بمواطني الدولة الأصليين.
وتساهم الإنتاجية العالية وتدني الرواتب في تدعيم الشركات الفرنسية بالطبع بخفض تكلفة العمالة الإجمالية، وتبرز أهمية هذا الأمر بصورة مضاعفة في ظل انخراط المجنسين في مهن مثل صناعة الغزل والنسيج الفرنسية بصورة كبيرة، وهي صناعة كثيفة الاستخدام للعنصر البشري (مع تضمنها آلات بطبيعة الحال) بما يحسّن من الميزة التنافسية للشركات الفرنسية.
وتشير دراسة نشرتها "كرستيان ساينس مونيتور" إلى أن المجنسين وأبناءهم يسهمون في زيادة لا تقل عن 10% للناتج المحلي الفرنسي (الحديث هنا عن الزيادة في الناتج الإجمالي وليس نسبة مساهمتهم الإجمالية)، وذلك بمقارنة وجودهم على أرض الواقع بآخر مفترض يكون كل سكان فرنسا فيه من "الأصليين".
وتستفيد فرنسا كثيرًا بتنوع أصول المجنسين، فهم من أفريقيا بجنوبها ووسطها وشمالها، ومن دول شرق أوروبا، بما يجعل الاقتصاد يستفيد بدخول تشكيلة متنوعة من العمالة التي تحوز مهارات متميزة ومتنوعة تثري الاقتصاد وتسهم في إضافة المزيد من التنوع إلى صورته النهائية، فالعمالة من أفريقيا السمراء أكثر قوة بينما من شمال إفريقيا أكثر خبرة، ومن أوروبا الشرقية أكثر مهارة.
عقبات
ولا يخلو الأمر بالطبع من عقبات في التعامل مع المجنسين، لعل أبرزها ما أوضحه مؤخرا الرئيس الفرنسي "ماكرون" حول خسارة الاقتصاد لـ"مبالغ طائلة" (لم يحددها) بسبب ما سماه بـ"المهاجرين الاقتصاديين" أي هؤلاء الذي يسعون للعمل بشكل غير قانوني على الأراضي الفرنسية، مشددًا على قبول بلاده بالتجنيس أو باللاجئين ورفضها لهؤلاء "المهاجرين الاقتصاديين".
وعلى الرغم من الفوائد الاقتصادية الجمة للمجنسين إلا أن أحزاب اليمين ترفضهم، بل وأصدر حزب الجبهة الوطنية المتطرف مؤخرًا بيانًا يؤكد فيه أن هؤلاء "غير الفرنسيين" يؤذون الاقتصاد كثيرًا بعملهم غير الرسمي وغير القانوني لأعوام قبل أن ينخرطوا في النظام الرسمي وأنه يجب إيقاف عمليات التجنيس التي تعتبرها حكومة "ماكرون" داعمة لشريان الاقتصاد.
كما تثار قضايا كثيرة متعلقة بالمجنسين أبرزها العنصرية والتخوفات من الإرهاب والصراع على فرص العمل وتأثر "الهوية الفرنسية" وغير ذلك، ولكن وعلى المستوى الاقتصادي، يبقى المجنسون قيمة مضافة لا يسهل على فرنسا التخلي عنها، ليس فقط للحصول على كأس العالم ولكن للحفاظ على اقتصاد قوي متجدد.