بعد 3 أشهر بالتمام والكمال، ما زالت حركة «السترات الصفراء» الاحتجاجية، التي انطلقت في 17 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حية تتحرك، وهي ظاهرة فريدة من نوعها في قاموس المظاهرات والحركات الاجتماعية في فرنسا. فمن جهة، ليست إضراباً تقليدياً، لأن القائمين بها يعملون كل أيام الأسبوع، وينزلون إلى الشارع يوم السبت. ولا هي مظاهرة ليوم واحد، لأنها متواصلة كل يوم سبت، وأمس كانت في نسختها الرابعة عشرة. والجديد أن «السترات الصفراء» قرروا الاحتفال اليوم، في باريس، بذكرى انطلاقة الحركة والتأكيد، كما قال أحد قادتها المعروفين، واسمه أريك درويه، على «استمراريتها» حتى تتحقق المطالب الاجتماعية والاقتصادية والمؤسسية التي ترفعها، وأهمها تحقيق العدالة الضريبية والاجتماعية، ورفع مستوى المعيشة، وإقرار مبدأ الاستفتاء بمبادرة شعبية.
بيد أن مظاهرات الأمس، التي جرت في باريس وكثير من المدن (بوردو، وتولوز، ومرسيليا، وليون، وروان، ورين،... إلخ»، أخذت تحف بها المتغيرات، وأولها تراجع التعاطف الشعبي الذي ميزها منذ البداية ورافقها حتى الأسابيع الأخيرة. وبيّن استطلاع للرأي أجري بحر هذا الأسبوع للمرة الأولى أن غالبية «ضعيفة» من الفرنسيين (56 في المائة) تريد أن يوضع حد للحركة التي أنزلت خسائر كبيرة بالاقتصاد الفرنسي، وأضعفت صورة البلاد في الخارج. لكن المفارقة أن النسبة عينها تقريباً (58 في المائة) ما زالت تدعم مطالبهم. ويعزى التراجع إلى 3 عوامل رئيسية، ليس أقلها وقعاً «تعب» الفرنسيين من رؤية السترات الصفراء أسبوعاً بعد أسبوع ينزلون إلى الشوارع، وتندس في صفوفهم مجموعات من اليمين المتطرف أو اليسار المتشدد، تريد الصدام مع القوى الأمنية. وبحسب الأرقام المتوافرة، فإن هذه القوى ألقت القبض، منذ انطلاق المظاهرات، على 8400 شخص صدرت بحق 1800 منهم أحكام قضائية. أما أعداد الجرحى من المتظاهرين والقوى الأمنية، فتعد بالمئات. ودفع هذا العنف الحكومة إلى تقديم مشروع قانون معجل إلى مجلس النواب، أقر في قراءة أولى، هدفه توفير مزيد من الحرية للشرطة والدرك لاحتواء «العابثين» بالأمن، وتعطيل حركيتهم، وسوقهم إلى القضاء. ويضاف إلى «تعب» المواطنين «الإرهاق» الذي حل بالقوى الأمنية المعبأة باستمرار، إذ إن الحكومة في عز الحركة التي شهدت عنفاً لا يوصف، نهاية ديسمبر (كانون الأول) وبداية الشهر الذي يليه، عمدت إلى تعبئة ما لا يقل عن مائة ألف رجل لاحتواء المتظاهرين، منهم 10 آلاف في باريس وحدها.
وتفيد الأرقام التي تنشرها وزارة الداخلية، دورياً، بأن قدرة الحركة على إنزال المتظاهرين إلى الشوارع قد تراجعت كثيراً، قياساً إلى ما كانت عليه في عزها. فيوم السبت الماضي، نزلت الأعداد إلى نحو 50 ألفا. لكن «السترات الصفراء» يتهمون الحكومة بخفض الأعداد عمداً لإظهار أن الحركة قد تراجعت، ويؤكدون أنها تجاوزت الـ110 آلاف شخص على كل الأراضي الفرنسية. لكن في الحالتين، من الثابت أن مستوى التعبئة قد تراجع، إذ إن جناحاً واسعاً من الحركة رأى بعد «التنازلات» التي قدمها الرئيس ماكرون، وبعد إطلاق «الحوار الوطني الكبير» للتعرف على مطالب المواطنين، أنه «حان الوقت» لوضع حد للحركة، وإعطاء الفرصة للحوار. لكن بالمقابل، ثمة جناح متشدد داخل السترات الصفراء ما زال يرى أن الحوار المزعوم ليس سوى «ذر للرماد في العيون»، ولن ينتج شيئاً. وأخيراً، نما شعور مفاده أن «المتطرفين» على جانبي الخريطة السياسية الفرنسية، أي اليمين المتطرف الذي تقوده المرشحة الرئاسية السابقة مارين لوبان، واليسار المتشدد الذي يتزعمه النائب المرشح السابق جان لوك ميلونشون، هما المستفيدان من استمرار الحركة التي يريان فيها وسيلة لإضعاف الرئيس ماكرون من خلال دعم المطالب الشعبية. يضاف إلى ذلك أن «تسييس» الحركة، وعنوانه المطالبة برحيل ماكرون عن السلطة، لعب دوراً في «الفتور». ويرى 64 في المائة من العينة المستفتاة أن «السترات الصفراء» حادوا كثيراً عن الأهداف الرئيسية التي كانت وراء إطلاق الحركة. وبالتوازي، فإن الخوف من أعمال العنف يدفع كثيرين إلى الامتناع عن المشاركة في المظاهرات.
ورغم الجدل الذي لم يهدأ حول استخدام القوى الأمنية لأسلحة ممنوعة في جميع البلدان الأوروبية، مثل الرصاص المطاطي أو القنابل الصوتية التي تستخدم لتفريق المتظاهرين، وسقوط العشرات منهم جرحى بسببها، فإن الحكومة شددت قبضتها القضائية. والدليل على ذلك أن كثيراً من رؤوس الحركة ملاحقون أمام القضاء لأسباب متعددة: الدعوة إلى مظاهرات غير مرخصة، وحيازة أسلحة ممنوعة. ودعا الرئيس ماكرون إلى «وضع حد للعنف»، فيما دخلت زوجته على الخط بشكل مختصر، وأدلت بدلوها للقناة الإخبارية «بي إف أم تي في»، حيث رأت أنه «حان الوقت» لوضع حد للحركة، و«لتصالح الفرنسيين» فيما بينهم. وجاء الجواب من مظاهرة في مدينة مرسيليا، اسمها شانتال، التي نقلت عنها صحيفة «لو فيغارو» أمس أنها «لا ترى سبباً» لوقف الحركة، لأن الحكومة «لا تستمع لمطالبنا»، وهم «يحاورن مكاننا، لكننا نحن نعرف ما نريد: نريد أشياء ملموسة، كرفع القدرة الشرائية، وتحسين الخدمات العامة».
وهكذا، تمضي الأيام والأسابيع في فرنسا، التي أصبح فيها يوم السبت موعداً ثابتاً للتظاهر. وأفادت أرقام وزارة الداخلية أن أعداد المتظاهرين ظهراً بلغت 10200 شخص، منهم 3 آلاف في باريس وحدها.
وفي العاصمة، تحولت «ساحة الأتوال»، الواقعة أعلى جادة الشانزليزيه، نقطة تلاقٍ إلزامية انطلقت منها أمس مظاهرة. ولم تكن هذه المسيرة الوحيدة، لكن جديدها أنه كان مرخصا لها.
وقد انطلقت مسيرات أخرى في العاصمة باتجاه نقطة التجمع في ساحة الأنفاليد، حيث تلاقى عدة آلاف سعوا إلى عبور الجسر المسمى «جسر ألكسندر»، نسبة لقيصر روسيا، بغرض الانتقال إلى الضفة اليمنى لنهر السين، حيث رئاسة الجمهورية ووزارة الداخلية. ولم يخل الوضع من بعض التوتر في باريس والمدن الأخرى. وحصلت مناوشات بين أعداد من المتظاهرين والقوى الأمنية المنتشرة بقوة في هذا المكان. وفي مدينة روان «شمال غربي البلاد»، اقتحمت سيارة مسيرة للسترات الصفراء، موقعة 3 جرحى. إلا أن يوم أمس، في أي حال، لم يكن قد عرف حتى نهاية بعد الظهر أعمال العنف التي جرت سابقاً في الشانزليزيه أو ساحة «ريبوبليك»، وغيرها من الجادات والساحات. ويبقى أن «السترات الصفراء» على موعد اليوم في العاصمة التي ستكون نقطة التقاطر الرئيسية للاحتفال بذكرى انطلاقة الحركة، والتأكيد على أنها ما زالت حية.