بين ليلة وضحاها، تصاعدت التهديدات والتلميحات بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، بسبب زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي، نانسي بيلوسي، إلى تايوان، في زيارة هي الأولى لمسؤول أمريكي بهذا المستوى إلى الجزيرة التايوانية منذ أكثر من 42 عامًا.
خلال هذه الزيارة أعلنت الولايات المتحدة تجديد عهدها بالوقوف إلى جانب تايوان، معتبرة إياها نموذجًا للديمقراطية عالميًا، فيما ثارت بكين للحد الذي جعلها تنفذ مناورات عسكرية مسلحة في محيط الحدود المائية مع تايوان، وهو ما أكدت الأخيرة أنه انتهك سيادتها ووصل إلى مياهها الإقليمية، لكن ما أصل هذا الصراع؟ الإجابة نعرفها في هذا التقرير.
تشابه إلى حد التطابق
في الأدبيات السياسية والمنظمات الدولية تعرف "تايوان" باسم جمهورية الصين، وهو الاسم الذي يتشابه مع اسم الدولة العملاقة التي نعرفها جميعًا وتتخذ لاسمها اسم جمهورية الصين الشعبية، كما تعرف تايوان باسم آخر هو تايبيه الصينية.
ظهور تايوان
في عام 239م، أرسل الإمبراطور الصيني، كتيبة لاستكشاف المناطق المجاورة لحدود إمبراطوريته، وهو سلوك اعتيادي في ذلك الوقت، ليظهر اسم تايوان لأول مرة في السجلات الصينية، ويستوطنها مجموعة من قبائل نازحة من جنوب جمهورية الصين الشعبية الحالية.
تعددت الإدارات للجزيرة التايوانية، فتارة يعتبرها الهولنديون مستعمرة تابعة لهم، وكان ذلك في الفترة بين (1624-1661)، وتارة تسيطر عليها الإمبراطورية الصينية خاصة أسرة تشينغ التي تولت إدارة تايوان لأكثر من 200 عام في الفترة من (1683 إلى 1895)، والتي اضطرت بعد هزيمة الصين في الحرب الصينية اليابانية إلى التنازل عن إدارة تايوان لليابان.
لم تدم الإدارة اليابانية لتايوان طويلًا، فبعد الحرب العالمية الثانية، استسلمت اليابان وتخلت عن السيطرة على الأراضي التي أخذتها من الصين، وبدأت جمهورية الصين، باعتبارها أحد المنتصرين في الحرب، في حكم تايوان بموافقة حلفائها، الولايات المتحدة والمملكة المتحدة.
الحرب الأهلية
خلال السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية، اندلعت حرب أهلية في الصين، انتصر فيها الشيوعيون بقيادة ماو تسي تونغ، الزعيم الشهير، ما أدى إلى هروب الزعيم السابق للصين تشيانغ كاي شيك إلى تايوان، ليعلن من هناك أنه يمثل "الصين" بشكل كامل، وليعلن ماو تسي تونغ من الضفة الأخرى تمثيله الصين الكاملة أيضًا.
مع هروب تشيانغ إلى تايوان، نزح ما يقارب 1.5 مليون نسمة من مؤيديه إلى تايوان، وهو ما مثل حينئذ نحو 14% من تعداد سكان تايوان، إلا أن هذه النسبة سيطرت على مقاليد الحكم في الجزيرة، للدرجة التي أورثت فيما بعد، تشيانغ تشينغ كو، وهو ابن الزعيم الهارب تشيانغ كاي شيك، الحكم.
مساندة أمريكية
في بداية التوتر بين الشيوعيون في جمهورية الصين الشعبية من جهة وتشيانغ كاي شيك في تايوان من جهة أخرى، ظنّت الولايات المتحدة أن تايوان سوف تسقط في أيدي الشيوعيين، ما دفعها للتخلي عن مساندتها، إلا أنه مع تصاعد التوتر والاشتباكات بين الجانبين، قرر الرئيس الأمريكي هاري ترومان التدخل في الأمر وإرسال الأسطول الأمريكي السابع لمضيق تايوان وذلك لحماية الجزيرة ومنع الشيوعيين في بر الصين الرئيسي من بسط سيطرتهم عليها.
الاعتراف
في 1952، وفي أعقاب معاهدة سان فرانسيسكو، اعترفت اليابان رسميًا بتايوان تحت اسم جمهورية الصين، مؤكدة على عدم اعترافها بأي معاهدة تم توقيعها مع جمهورية الصين قبل عام 1942.
فيما تدخلت الولايات المتحدة مرارا للدفاع عن الجزيرة ووقعت اتفاقية الدفاع المشترك بين الولايات المتحدة وحكومة جمهورية الصين في تايوان في الثاني من ديسمبر لعام 1945 واتفاقية فورموزا في 29 يناير سنة 1955.
المعجزة التايوانية
بين عامي 1960 و1970، تحولت تايوان إلى دولة منتجة للتكنولوجيا، كما حققت بفضل هذه التكنولوجيا طفرة اقتصادية هائلة عرفت تاريخيا فيما بعد باسم المعجزة التايوانية وأصبحت واحدة من النمور الآسيوية الأربعة.
التمهيد للديمقراطية
وفي عام 1975 توفي تشيانغ وخلفه ابنه في الرئاسة بعد ذلك بثلاثة أعوام والذي احتفظ بالسيطرة الكاملة على البلاد. وفي عام 1979 قامت الولايات المتحدة بقطع كل العلاقات الدبلوماسية مع تايوان وإلغاء اتفاقية الدفاع المشترك بينهما، وورث تشيانغ الابن سطوة ديكتاتورية عن الأب جعلت السكان المحليين في تايوان يثورون ضد الحكم الديكتاتوري، وقاد الرئيس لي تنغ هوي، المعروف باسم "أبو الديمقراطية" في تايوان، تغييرات دستورية نحو نهج سياسي أكثر ديمقراطية، مما أدى في النهاية إلى انتخاب تشن شوي بيان، عام 2000.
دولة واحدة ونظامان
في الثمانينات وقبيل التحول الديمقراطي في تايوان، بدأت العلاقات بين الجارتين الصينية والتايوانية في التحسن، وطرحت الصين صيغة تُعرف باسم "دولة واحدة ونظامان"، تُمنح بموجبها تايوان استقلالية كبيرة إذا قبلت إعادة توحيد الصين، وبمعنى آخر إذا قبلت تايوان الانضمام لجمهورية الصين الشعبية، رفضت تايوان العرض، لكنها خففت من القواعد الخاصة بالزيارات والاستثمار في الصين.
وفي عام 1991، أعلنت تايوان انتهاء الحرب مع جمهورية الصين الشعبية، وفي عام 2000 عندما انتخبت تايوان تشين شوي بيان رئيسا، شعرت بكين بالقلق، لأن تشين أيد صراحة "الاستقلال".
مناهضة الانفصال
وبعد عام من إعادة انتخاب تشين في عام 2004، أصدرت الصين ما يُسمى بقانون مناهضة الانفصال، والذي ينص على حق الصين في استخدام "الوسائل غير السلمية" ضد تايوان إذا حاولت "الانفصال" عن الصين.
هدأت هذه الحدة بعد تولي ما يينغ جيو، رئاسة تايوان، والذي سعى بعد توليه منصبه في عام 2008، إلى تحسين العلاقات مع الصين من خلال الاتفاقيات الاقتصادية.
وبعد ثماني سنوات تحديدا في عام 2016، انتخبت الرئيسة الحالية لتايوان تساي إنغ ون، والتي تميل نحو الاستقلال الرسمي النهائي عن الصين.
التحول من الزراعة إلى التكنولوجيا
في الفترة بين الخمسينات والسبعينات، شهدت تايوان تحولًا من كونها بلدًا يعتمد اقتصاديًا على الزراعة، إلى بلد يعتمد على التكنولوجيا، وشهد هذا التحول تأسيس معهد أبحاث التكنولوجيا الصناعية في عام 1973، على يد وزارة الاقتصاد التايوانية.
ثم بدأت وزارة الاقتصاد البحث عن أفضل التخصصات الدقيقة التي لها مستقبل واعد، وهو قطاع صناعة الرقائق أو أشباه الموصلات، لتبدأ خطة إرسال الفرق حول العالم للبحث عن أفضل المواهب والكفاءات التايوانية في الغرب للعودة وإفادة بلادهم الأصلية بقدراتهم المتميزة.
تأسيس تي إس إم سي
في عام 1987، تأسست شركة تي إس إم سي، المنبثقة عن معهد أبحاث التكنولوجيا، وهذه الشركة تنتج أكثر من 11,6 ألف منتج، مستخدمة 281 تقنية، في تصنيعها، لصالح 510 عملاء حول العالم حتى 2020، وهي بذلك الشركة الأهم في حياة سكان الأرض.
أهمية الرقائق التي تصنعها تايوان
تدخل هذه الرقائق في صناعة التلفزيونات، والهواتف الذكية، والشاشات، والحواسب الآلية، والسيارات، والأجهزة الطبية المتقدمة، والأجهزة الكهربائية، والنقل الذكي والقيادة الذاتية، وأجهزة الترفيه والألعاب، والزراعة المتقدمة والتصنيع الزراعي، وتطبيقات الذكاء الصناعي، وتطبيقات إنترنت الأشياء، والحواسب فائقة السرعة والأداء، وأنظمة إدارة الطاقة المتجددة، والطائرات التجارية، والطائرات المقاتلة، وأنظمة التسليح المتطورة.
المنافسة
الفارق بين الشركة التايوانية ونظرائها في الصين وكوريا والولايات المتحدة لا ينحصر فقط في المبيعات والمكاسب، لكن يمتد أيضًا لتتفوق تي إس إم سي، بـ 1.5 جيل على "إنتل" وفي حال ظلت الأخيرة على نفس مستواها الحالي حتى 2024 ستكون قد تأخرت خلف الشركة التايوانية بـ3 أجيال كاملة من التكنولوجيا.
مفتاح اللغز
والآن يبدو جليًا أن الصراع ليس على قطعة أرض هي جزء أو ليست جزءًا من إرث الإمبراطورية الصينية، إنما هو صراع حول تكنولوجيا ومن يملكها ويتحكم فيها، فيتحكم في مستقبل التسليح والتكنولوجيا والتجارة والطاقة عالميًا.