امتنعت الغالبية العظمى من الناخبين التونسيين عن التصويت السبت في اقتراع لاختيار أعضاء برلمان مجرّد من سلطات فعلية في خطوة تشكل الحجر الأخير في بناء نظام رئاسي معزّز يسعى قيس سعيّد إلى إرسائه منذ احتكاره السلطات في البلاد صيف 2021.
وسيحل مجلس النواب الجديد المكون من 161 نائبًا بسلطات محدودة للغاية، محل المجلس الذي جمّد سعيّد أعماله في 25 تموز/يوليو 2021 قبل أن يحلّه بحجة التعطيل الذي عاشته المؤسسات الديموقراطية الناتجة من الثورة التي أسقطت الرئيس الراحل زين العابدين بن علي عام 2011.
وأعلن رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات فاروق بوعسكر أن نسبة المشاركة بلغت 8,8 بالمئة مع إغلاق غالبية مراكز الاقتراع في السادسة مساء (17,00 ت.غ).
وستعلن النتائج الأولية للدورة الأولى من الانتخابات التشريعية الاثنين، على أن تجرى دورة ثانية لحسم مصير عدد من المقاعد بين شباط/فبراير وآذار/مارس المقبلين.
ووصفت جبهة الخلاص الوطني، الائتلاف الرئيسي المعارض الذي يضم حزب النهضة، ما حدث اليوم من مشاركة ضعيفة بأنه "زلزال"، ودعت القوى السياسية الى التشاور.
وهذه أدنى نسبة مشاركة للناخبين منذ ثورة 2011 بعد نسب قياسية بلغت 70 بالمئة في الانتخابات التشريعية في تشرين الأول/أكتوبر 2014، وهي أقل بثلاث مرات من النسبة المسجلة إبان الاستفتاء على الدستور الجديد هذا الصيف (30,5 بالمئة) الذي شهد أصلا امتناعا قويا عن التصويت.
وعلّق المحلل السياسي يوسف الشريف ساخرا في تغريدة أن البرلمان الجديد "يفترض أن يكون أكثر ديموقراطية وتمثيلية من جميع البرلمانات السابقة في تاريخ البلاد".
وقال بوعسكر إن "نسبة المشاركة متواضعة وليست بمخجلة"، معتبرا أن "هذه الانتخابات هي الأنظف لأنها كانت خالية تماما من المال السياسي والتحويلات الأجنبية... ومن شراء الأصوات".
وكان الرئيس سعيّد قد حاول في الصباح حشد تسعة ملايين ناخب قائلا إن هذه الانتخابات "فرصتكم التاريخية حتى تستردوا حقوقكم المشروعة".
قاطعت غالبية الأحزاب السياسية في تونس وفي مقدمها حزب النهضة ذو المرجعية الاسلامية والذي كان أكبر الأحزاب في البرلمان منذ 2011، الانتخابات وقالت إنها لن تعترف بنتائجها. كما وصفها "الاتحاد العام التونسي للشغل" (النقابة العمالية المركزية) بأن "لا لون ولا طعم" لها.
من العوامل الأخرى التي تفسر الإحجام الواسع عن التصويت أن المرشحين وعددهم 1055 غالبيتهم غير معروفين، وتمثل نسبة النساء منهم أقل من 12 بالمئة.
وأجريت الانتخابات على أساس الترشحات الفردية وليس الحزبية، ووفق تقسيم جديد للدوائر جعلها أصغر بكثير من السابق.
ويظل الشغل الشاغل لـ12 مليون تونسي، بمن فيهم تسعة ملايين ناخب مسجل، ارتفاع تكاليف المعيشة مع تضخم يناهز 10 بالمئة واستمرار فقدان بعض المواد الغذائية المتكرر على غرار الحليب والسكر.
قالت سليمة بحري، وهي طالبة تبلغ 21 عاما التقتها وكالة فرانس برس في ضواحي تونس، إنها لم تصوت لان "لا خيار أمامنا في غياب الأحزاب السياسية".
ولم تكن الأجواء مختلفة في بقية أنحاء البلاد.
وفي محافظة القصرين (غرب الوسط) التي كانت من أولى المناطق التي انتفضت ضد نظام بن علي في العام 2011، قال عبد الجبار بوضيافي (59 عاما) إنه أدلى بصوته احساسا منه "بالواجب الانتخابي" وأعرب عن أمله في أن "يغير ذلك من الوضع السياسي والاقتصادي في البلاد".
أما محمد الجرايدي (40 عاما) الذي قاطع الانتخابات، فقال "ليست لدي ثقة في الطبقة السياسية، جعلوا منا فئران تجارب لكل أنواع الانتخابات".
بدوره قال عبدالقادر التليجاني (55 عاما) في محافظة قفصة (غرب) المهمشة إن "الثورة تم اغتيالها كما قامت الحكومات المتعاقبة باغتيال حلمنا".
بموجب الدستور الجديد، لا يمكن للبرلمان عزل الرئيس وسيكون من المستحيل تقريبًا أن يوجه لائحة لوم للحكومة. ويحتاج اقتراح مشروع قانون إلى إجماع عشرة نواب، فيما تعطى أولوية النظر إلى مشاريع القوانين التي يقترحها رئيس الجمهورية.
ويرى أستاذ العلوم السياسية حمزة المؤدب في تصريح لوكالة فرانس برس أن "هذا التصويت اجراء شكلي لاستكمال النظام السياسي الذي فرضه قيس سعيّد بتركيز السلطات بين يديه".
أما هاميش كينير المحلل في مكتب "فيريسك مابلوكروفت الدولي"، فيرى أن الاقتراع "أداة يستخدمها الرئيس سعيد لإضفاء الشرعية على احتكاره للسلطة".
ويضيف كينير أن الانتخابات "ستسهل مع ذلك علاقات تونس مع شركائها الخارجيين الرئيسيين، من خلال إنهاء 17 شهرًا من عدم اليقين الدستوري" منذ احتكار سعيّد للسلطات في البلاد.
وتبدو هذه الانتخابات مفصلية بالنظر إلى الوضع الاقتصادي والمالي والاجتماعي في البلاد.
وقد أرجأ صندوق النقد الدولي الذي كان من المقرر أن يعطي الضوء الأخضر الإثنين لمنح تونس قرضا رابعا على عشر سنوات بنحو ملياري دولار، قراره إلى مطلع كانون الثاني/يناير بطلب من الحكومة التونسية التي لم يُغلق ملفها بالكامل، على ما أفادت مصادر وكالة فرانس برس.