مكة المكرمة، مهوى أفئدة المسلمين وقبلتهم التي يولون وجوههم شطرها، تزخر هذه المدينة المقدسة بأهم المعالم الدينية والتاريخية، ففي قلبها يقع المسجد الحرام أعظم مسجد في الإسلام، تتوسطه الكعبة المشرفة قبلة المسلمين في صلاتهم وأول بيت وضع للناس، وأما الراسخون في صحائف التاريخ فإنهم يعرفون التطورات والأحداث التي شهدتها هذه المدينة على مدى قرون من الزمن .
ومكة التي يحج إليها الناس كل عام تعد مهبط الوحي ومبعث الرسالة ونظراً إلى حجم مكانتها فصوبها يتجه المسلمون جسداً وروحاً في شعائرهم اليومية، ولأداء مناسك الحج والعمرة، فإن فرصة رؤية قطعها النادرة والتاريخية من الكعبة أو المسجد الحرام ثمينة بالنسبة للمسلمين والزوار الذين حضروا إلى جناح مكة في بينالي الفنون الإسلامية .
حينما تدخل إلى ذلك الجناح الذي بدا حجم الإقبال عليه لافتاً، ستستقبلك صورة حائط كبيرة استرعت انتباه كل الحاضرين الذين وقفوا ليتأملوا سحنات وجوه سدنة بيت الله الحرام الذين يتحدرون من بني شيبة من قبيلة قريش، إذ يضطلعون جيلاً بعد جيل بمسؤولية حفظ مفاتيح الكعبة، وفتح بابها أثناء مراسم الغسيل، والقيام بشؤونها .
وبعدئذ، سيلحظ زائر المكان أجزاء من حزام كسوة الكعبة المشرفة، التي تعد ضمن أولى قطع الكسوة التي أنتجها مصنع الكسوة في مكة، في عهد الملك عبد العزيز، منقوشة بالنصوص القرآنية المذهبة .
أروقة الجناح حافلة بالقطع الأثرية، والنوادر مثل ما يعرف بـ ميزاب تاريخي للكعبة، مطلي بالذهب، يعود تاريخه إلى عام 1273، وهو الجزء المثبت على سطح الكعبة في الجهة الشمالية والممتد نحو الحِجْر والمصرّف للمياه المتجمعة عند سقوط الأمطار أو غسل السطح .
وبالاتجاه إلى داخل الجناح قليلاً، نتوقف عند لوحة خزفية تُظهر صورة المسجد الحرام أُحضرت من متحف بيناكي في أثينا تعد من قطع الخزف ذات النوع الأعقد الذي أنتجه الخزفيون في آسيا الصغرى والشام تبدو عليها صور للمسجد الحرام ومناطق أخرى من مكة المكرمة والمدينة، جرى صناعتها في أفران الخزف في أوائل القرن الثاني عشر ميلادي.
وبالتوازي، على مقربة من هذه اللوحة الخزفية، يلاصقها لوحة أخرى صُنعت من الزينة المصنوعة ذاتها، غير أنها بدت تظهر المسجد الحرام من الأعلى، فيما تتميز بعدد نقوش كبير تحدد المناطق داخل فناء المسجد، وتعود ملكية هذا العمل إلى دار الآثار الإسلامية في الكويت.
ومع ذلك، هل كنت تتوقع أنك ربما تقف على مقربة من أجزاء حزام الكعبة يوماً؟ بالطبع للوهلة الأولى تبدو الإجابة غير واضحة، بيد أن جناح مكة أتاح الفرصة لك بالوقوف ومشاهدة تفاصيله عن كثب، إذ تعود تلك القطعة الحريرية الفاخرة المطرزة بالذهب وتحيط بكسوة الكعبة إلى القرن الرابع عشر هجري، وتعتلي سقف إحدى قاعات الجناح بشكل لافت.
وإلى تفاصيل الجناح أكثر، نصحبكم إلى مقربة من قطعة الحرير الأحمر تحمل قيمة معنوية كبيرة، نظراً إلى أنها كانت ذات يوم جزءاً من ستارة تزين جدران الكعبة من الداخل، فيما نسجت على قطع الحرير تلك شرائط متعرجة تضم نقوشاً كتابية.
فيما ستشد انتباهك ستارة باب الكعبة الداخلي التي كتبت بخط الثلث المتقن فيما يعتقد أنها كتبت بخط الشيخ علي بدوي بأمر من السلطان فؤاد الأول المعروف لاحقاً بـ الملك فؤاد، وغيرها من التفاصيل التي ستجذبك مثل المخطوطات القرآنية التي كتبت في مكة بتاريخ 1187 هجري، إلى جانب أستار الكعبة المشرفة المصنوعة من الحرير الأسود المطرز بأسلاك فضية وذهبية.
أما المفارقة الأكثر تأملاً في هذا الجناح فهو حجم الحضور الكثيف للزوار غير المسلمين الذين تسنت لهم الفرصة بالإمعان والنظر في كسوة الكعبة ولمسها، ومشاهدة مفاتيحها وأبوابها، بجانب النظر إلى ستارتها، وعيشهم للحظات على مقربة لصيقة من تلك البقعة المقدسة، فهؤلاء الذين حضروا لا يمكن لهم القيام بهذا الأمر بشكل واقعي، فالشريعة الإسلامية تنص على منع دخول غير المسلمين إلى الحرم وحدوده، غير أن الجناح منحهم دعوة للتأمل في الأصول التراثية والتاريخية والدينية لمكة.
الدكتورة هبة البركات، مؤرخة فن إسلامي، زارت الجناح، وتقول لا يمكن أن يكون التجهيز لهذا الجناح تحديداً عملاً سهلاً، فليس بالسهولة جمع كل هذه المقتنيات الأثرية، والمخطوطات، والمنسوجات من متاحف الفن العالمية كافة وجلبها إلى بينالي الفنون الإسلامية.
يبدو السرور واضحاً في قسمات وجهها أثناء حديثها وهي واقفة خلف حزام الكعبة، معربة عن سعادتها بأنها محاطة بقطع قديمة وآثار ومخطوطات متعلقة بالكعبة المشرفة، فذلك حسب وصفها يشعرها بإحساس مختلف ممتلئ بالروحانيات.
أما الدكتور محمد حسن، باحث أول في مركز دراسات الخطوط، فيقول إن الجناح استطاع وضعنا بحالة تتعلق بروحانية مكة المكرمة وحالتها الإنسانية، لافتاً إلى أن تحوّل التعامل مع الأثر إلى جانب إنساني يعد معنى كبيرًا لمعرض الجناح، بدءاً من الجانب الإنساني، مروراً بالأصول التي لا تتوافر في أي مكان، مبيناً أن حضورها عن قرب يخلق بيننا وبينها علاقة إنسانية جمالية مختلفة.
فيما سوف يستمر عمل الجناح طيلة فترة افتتاح بينالي الفنون الإسلامية الذي يستمر حتى 3 أشهر من الآن، ويعد الحدث الأول من نوعه الذي يحتفي بالغرث التاريخي العتيق للحضارة الإسلامية بلمسات فنية لافتة.
جناح #مكة_المكرمة.. لمسات روحانية تحيط به وإعجاب لافت يسجله الزوار https://t.co/fAuFbDILlR pic.twitter.com/gwcorFxaQ0
— أخبار 24 (@Akhbaar24) January 25, 2023