من شهد الحقبة الزمنية التي تعرضت فيها المملكة العربية السعودية لهجمات إرهابية، سرعان ما تقهقر رموزها وذهبوا إلى الجحيم، بدون أدنى شك، سيتفهم ماذا يعني "مايو الأسود".
و"مايو الأسود" وهو مصطلح ساقته الصحافة السعودية، لوصف شهر مايو من عام 2003، الذي شهد الشرارة الأولى، التي أعلنت عن قبح تنظيم القاعدة – القبيح في أصله وتأصيله -، من خلال استهداف الدولة – أي المملكة العربية السعودية -، التي تعتبر منارةً للإسلام، وقبلةً لأكثر من مليار مسلم.
ففي 12 مايو من عام 2003، أمست العاصمة السعودية الرياض، على وقع ثلاثة تفجيرات ضخمة، استهدفت مجمعات سكنية غالب قاطنيها من الأجانب "مجمع الحمراء، مجمع المحيا، مجمع فينيل"، نفذها 15 شخصاً تابعون لتنظيم القاعدة، ارتدوا زياً أمنياً، وأخضعوا المواقع المستهدفة، لمراقبة طويلة، إلى أن جاءت ساعة الصفر، بتنفيذ الهجمات، التي لاقت صداً دولياً كبيراً وواسعاً.
وجد السعوديون يومها، أنهم أمام فكرة، لا يمكن التعامل معها بهوادة، أو ارتخاء، وذلك كان واضحاً حتى المستوى الشعبي، ناهيك عن الحكومي، ما كان مجالاً لطرح الأسئلة، حول "أيديولوجية" لطالما تمترست وراء ستار ديني، لكنها تُخفي عدوانيتها، وشهوتها لسفك الدماء، وقتل الأبرياء، من خلال الاستناد على أساسٍ تكفيري، يضع طبيعة الحياة في كفّة، ومنهجية الإرهاب في أخرى.
وقد بلغ عدد ضحايا تلك الهجمات 34 شخصاً، بينهم 7 سعوديين، و7 أميركيين، وأردنيان، و 3 فلبينيين، ولبناني، وسويسري، وإيرلندي، وأسترالي، بينما بلغ عدد الجرحى والمصابين 194 شخصا من جنسيات مختلفة.
وكانت تلك الخطوة محاولة لهروب التنظيم إلى الأمام، بعد أن انكشف أحد المنازل في حي الجزيرة بالرياض، يوم الخامس من مايو، عقب حدوث انفجارٍ عرضي، أبلغ عنه جيران ذلك المنزل، الذي اتضح لاحقاً، أنه أحد أوكار التنظيم، واكتشفت وقتذاك كميات من الأموال، والأسلحة، والمتفجرات والذخائر.
وجاءت التفجيرات المتزامنة في يومٍ واحد، كما يبدو لـ"لملمة" أوراق التنظيم، بعد الإعلان عن أول قائمة أعلنتها الجهات الأمنية، تضمنت رؤوسه "يوسف العييري، وعبد العزيز المقرن، وتركي الدندني"، وغيرهم، التي ربما فهمها القادة، بمثابة اقتراب من ساعة الحساب من جانب، ما يستدعي التفكير بأحداث مدوية، لتشتيت الدولة والمجتمع في آن واحد، من جانبٍ آخر.
وأراد التنظيم وضع الدولة في موضع حرج، مع الدول الأخرى، لا سيما تلك التي ذهب من مواطنيها ضحايا لتلك الهجمات الإرهابية، لتتشكل من خلال ذلك صورة ذهنية، بعدم قدرة المملكة على حماية من هم على أراضيها، من مواطنين ومقيمين.
لكن تلك العمليات انعكست على التنظيم، لا سيما بعد أن ذهب ضحاياه أعداد من الأبرياء، ما أكسب المملكة كدولة، تعاطفاً دولياً، وتأييداً في ضربها للإرهاب بيدٍ من حديد، بل إن الأمر تخطى ذلك، حين قدم عديد من الدول الرغبة في تقديم أي مساعدة أمنية واستخباراتية للمملكة، إلا أنها أعرضت عن ذلك ولو بشكلٍ جزئي، لثقتها بقدرات أجهزة الأمن.
وعزز ذلك بذات الوقت "الجبهة الداخلية"، عبر تشكيل رأي عامّ محلي داخل السعودية، يرفض وينبذ لغة الدم، وأي شكل من أشكال الإرهاب وصوره، التي ينتهجها تنظيم القاعدة، ووقف المواطن السعودي إلى جانب دولته، التي استدعته وطالبته بالإبلاغ عن قوائم المطلوبين أمنياً، وضعتها وزارة الداخلية آنذاك، كهدف لها ولأجهزتها، وهذا ما تحقق على الصعيد العملي، إذ إن بعض العمليات التي أسقطت الجهات الأمنية فيها عدداً من المُعلن عنهم، تمت بإرشاد من المواطنين.
وحتى أن القبائل والعشائر وأبناء البادية والحاضرة في السعودية، قالت كلمتها، من خلال رموزها التي ذهبت إلى رأس الدولة "الملك وولي العهد"، وأعلنت عن استنكارها لأي شخص ينتمي لذلك الفكر المنحرف، ومن يؤيده، ويتعاطف معه، ما شكّل حاضنةً شعبية، أوجعت التنظيم، الذي كان يُعول على عواطف بعض السُذج والبسطاء.
واستمرت السعودية في حربها على الإرهاب، إلى أن استأصلته عن بكرة أبيه، وليس ذلك فحسب، بل إنها أصبحت مثلاً ونبراساً يُحتذى به في العالم الآخر، من حيث تقديمها الغالي والنفيس، لإبعاد شبح التطرف عن محيطها، وعن الإقليم، والعالم بأسره.
وسجل المملكة حافل بالتضحيات التي قدمها أبناؤها لمواجهة تنامي هذا الخطر، من منطلق حماية الأرض، التي تفرضها المواطنة الحقيقية، والأمانة الأخلاقية للسعوديين، وهذا ما نظرت له الدولة بعين الإكبار، ودفعها لأن تقيم برامج خاصة بالشهداء الذين قدموا أرواحهم للذود عن الوطن، ولا يزال مئات الأبناء والأسر حتى هذا اليوم، تنعم بها، دون استشعار أدنى منّة من الدولة، التي لم تنسَ تلك التضحيات لحظةً واحدة.
ويُستخلص من هذه التجربة، أن هذا الوطن العظيم، لا زال يضع ذلك بمثابة عنوان عريض لسياسته، وهذا يمكن استذكاره من قول خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان – والد الجميع -، "لا مكان بيننا لمتطرف، يرى الاعتدال انحلالاً، ويستغل عقيدتنا السمحة لتحقيق أهدافه، ولا مكان لمنحل يرى في حربنا على التطرف وسيلة لنشر الانحلال".
ومن خلال هذا الحديث الملكي، يمكن استيعاب، وضع الدولة ضرورة الأمن الاجتماعي كعامل يستحيل الابتعاد عن توفيره، لتحقيق النجاح المطلق، لأي فكرة كبرى، أو مشروع دولة، كالمشروع الذي تتبناه السعودية، والذي يضع الإنسان والمجتمع قاعدةً ورافعةً لنجاحه، على كافة الأصعدة.