قبل خمسة عشر عامًا عاش فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين (رمضان 1347-شوال 1421 للهجرة) آخر رمضان له ظل فيه مواظبًا على العبادة والتعليم بمكة المكرمة حتى آخر يومٍ في الشهر بالرغم من تمكن المرض منه حيث توفي بعد انقضاء الشهر بخمسة عشر يومًا فقط - غفر الله له وجعل ما أصابه رفعةً له عنده-، وفي هذه المقالة سأروي ما لا يعرفه الأكثرون لحظة إبلاغه بالمرض قبل وفاته بأشهر قليلة.
كان يوماً من أصعب الأيام التي مررت بها.. هو ذلك اليوم الذي أُبلغ فيه والدي نبأ إصابته بالمرض الخطير - كما يسميه فهو لا يحب تسميته بالخبيث كما هو شائع بين الناس، حمانا الله وإياكم شره وشفى كل مسلم - فلقد ذهبنا إلى مستشفى الملك فيصل التخصصي بعد أن تم تحويل حالته من مستشفى الحرس الوطني عند اشتباههم في مرضه، وتم عقد اجتماع مع الفريق الطبي الذي حُدد للإشراف على علاجه وبدأ الأطباء بشرح حالة المرض وعرض الأشعة ونتائج الفحوصات وما إلى ذلك من الأمور الطبية ثم أخبروه بخطة العلاج وتم اقتراح طريقتين؛ إما العلاج الكيميائي أو الإشعاعي، وتركوا له حرية الاختيار مؤكدين أن كِلتا الطريقتين تؤدي الغرض نفسه؛ فأخبرهم - رحمه الله - أنه سوف يفكر في الأمر ويستخير ويستشير بعدما تأكد من تقارير المجموعة الطبية وأحاديثهم معه من خطورة المرض وأنه مرض لا يرجى برؤُه إلا بقدرة الله عز وجل.
بعد الانتهاء من الاجتماع وإيضاح الخطة الكاملة خرجنا بسيارتي من المستشفى في طريقنا إلي المنزل والصمت يخيم على الموقف ولا أعرف كيف أتكلم معه أوأهون عليه فللتو أُخبر عن مرضه العضال مع شرح مفصل عن صعوبة العلاج، وأن المرض قد تمكن منه وتجاوز مكانه الرئيسي وبدأ بالانتشار في مناطق أخرى من الجسم مما يصعب معه السيطرة عليه، ولا أخفيكم؛ فقد ضج داخلي ألماً وألزمني صمتًا لكني بقيتُ متماسكاً أمامه، تاهت كلماتي وتبعثرت مشاعري حتى فاجأني -رحمه الله- بعد دقائق وببساطته المعهودة بسؤالي:- «وش رايك باللي يقولون أيهم أزين؟»، شعرت بشيءٍ من الطمأنينة والهدوء وأجبته - وفق معلوماتي - بأن الكيماوي من الممكن أن يكون أسهل وأفضل وأيسر لك وهو المعروف والدارج في علاج هذا المرض حسبما نسمع وأكملت: «وأنت يبه اللي تشوفه»، التفت علي وهو يبتسم ممازحاً لي وقال: يقولون: إنه يطيّح (يُسقط) الشعر.. فرددت بسرعة مستجيبًا لروحه الراضية وابتسامته المشرقة: الحمد لله الأمر بسيط وأنت «يبه» ما عندك إلا شوي شعر في الجوانب ولن يؤثر كثيرًا وابتسمت له فأجابني: صحيح وواصل معلقًا: «علشان كذا الحلاقين عند الحرم بمكة يأخذون علي أجرة رأس كامل وهم ما يحلقون إلا نص رأسي»!!
رحمك الله يا والدي ففي أشد حالاتك ألماً كنتَ تعلمنا الصبر والشكر والرضا بقضاء الله والإيمان المطلق بالقدر خيره وشره..
لحظتها تناهبتني مشاعر مختلطة ألزمتني الصمت مجبراً والبكاء في داخلي بدموع مكبوتة كادت تفيض من عيني وأنا أريد التظاهر بالثبات أمامه مستعيدًا صورة الموقف الصعب؛ فكيف لأبي أن يخبره الأطباء قبل أقل من نصف ساعة بمرضه وتضاؤل إمكانات حجر انتشاره السريع وهو يحس بداخلي ويحاول التخفيف عني بممازحته لي!!!
بعدها تحدث معي عن القضاء والقدر وأنه يحمد الله الذي أعطاه عمرًا يفوق عمر الرسول صلوات الله وسلامه عليه بعشر سنوات ويسأل العلي القدير أن يجعل الزيادة له فيه من زيادة أعماله الصالحة وحسن الخاتمة وأن هذا المرض قد أصابه لزيادة هذا الأجر بإذن الله ثم استشهد بقصة نبي الله موسى عليه السلام حين جاء ملك الموت إليه فقال له: أجب ربك؟ قال: فلطم موسى عليه السلام عين ملك الموت ففقأها، قال، فرجع الملك إلى الله فقال: إنك أرسلتني إلى عبد لك لا يريد الموت، وقد فقأ عيني، قال: فرد الله إليه عينه وقال: ارجع إلى عبدي فقل الحياة تريد؟ فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور، فما توارت يدك من شعره فإنك تعيش بها سنة، قال: ثم مه؟ قال: ثم تموت!
قال: فالآن من قريب.
رحمك الله يا والدي رحمة واسعة وأسكنك فسيح جناته وأنزلك منازل الشهداء والصديقين، فقد كنت ومازلت لنا ولمريديك درسًا في الصبر والتوكل والعطاء.
وفي الختام فقد تساءل بعضهم حول عدم تداوي الشيخ- رحمه الله- بالكيماوي وهل هو لسبب شرعي أم لا؟ ولعل الحكاية أوضحت أن السبب شخصي لا شرعي، والحمد لله في الصحة والمرض واليسر والعسر؛ شفى الله مرضانا ورحم موتانا وأنعم على الجميع بعنايته وعفوه.