فيلم فريد من نوعه يكشف عن سلوك لم يُرصد من قبل لقردة الشمبانزي. وربما تغير مشاهدتنا لذلك المقطع الفريد والمُميز وذي الطابع الحميمي للغاية طريقة تفكيرنا بشأن الحيوانات وقدرتها على الشعور بالحزن.
يصور ذلك المقطع، الذي كُشف عنه النقاب مؤخرا، ردود فعل مهيبة وجليلة، من قبل مجموعة من قردة الشمبانزي على اكتشافها جيفة رفيق لها. (يمكنك مشاهدة المقطع المصور هنا.)
فلمدة 20 دقيقة، تحتشد هذه القردة بهدوء حول الجيفة، رغم محاولات إغرائها بالابتعاد عنها، عبر عرض الطعام عليها.
وخلال هذه الفترة، تلمست قردة الشمبانزي بلطف جيفة رفيقها وتشممتها، وبدت مظاهر الانزعاج والضيق واضحة بشكل أكبر على القردة التي كانت ذات علاقات أوثق بالشمبانزي النافق.
بعد ذلك، عكفت أنثى شمبانزي أكبر سنا على الاعتناء بذلك الشمبانزي، وحاولت بحنو تنظيف أسنانه بالاستعانة بما بدا فرع شجرة جافاً.
وقد جرت هذه الواقعة في دار تشيمفُنشي للحيوانات البرية التي تعاني من اليُتم، في مقاطعة كوبربيلت بشمال غربي زامبيا.
ويتوزع قاطنو الدار من حيوانات؛ بين قردة شمبانزي أُنقذت قبل سنوات من عمليات إتجار غير مشروعة في الحيوانات البرية، ونسل هذه القردة من الحيوانات التي وُلدت وتعيش منذ ذلك الحين في هذه المنطقة.
أما القرد النافق، والذي كان معروفا لملاحظيه من البشر باسم "توماس"، فقد فارق الحياة وهو في التاسعة من العمر. وكان يعيش ضمن مجموعة تضم 43 من قرود الشمبانزي الأخرى، في مأوى مُسيّج فسيح، يُوجد في الهواء الطلق، ويغص بالأشجار الكثيفة.
أصدقاء مقربون
وكان الشمبانزي "توماس" اجتماعيا للغاية، وينزع إلى إقامة صلات قوية مع أفراد القطيع الذي يعيش في إطاره.
وبعدما فقد أمه وهو في الخامسة من عمره، نشأت علاقة صداقة خاصة بينه وبين ذكر آخر أكبر سنا يُطلق عليه اسم "بان".
وفي تصريحات لـ (بي بي سي إيرث)؛ قال البروفيسور إدوين فان لِفين، الخبير في شؤون الثدييات من رتبة الرئيسيات، إن "بان تبنى توماس، وهو أمرٌ شديد الخصوصية في تجمعات قردة الشمبانزي".
فقد كان الاثنان يقضيان أوقاتا طويلة معا. وفي كثير من الأحيان؛ كانا يُحييان قردة الشمبانزي الأخرى التي تمر بهما، أو يستفزانها، أو يلهوان معها.
وفيما يتعلق بنفوق "توماس"، فقد أثبتت الفحوص التي جرت لاحقا على جيفته، أنه فارق الحياة جراء الإصابة بعدوى فيروسية وبكتيرية أدت لأن يعاني من صعوبات في التنفس.
وعندما اكتشف القطيع جثته؛ أقدم الشمبانزي "بان" – كما ظهر في المقطع المصور - على تصرفات غير معتادة، إذ ظل يتفقد جيفة صديقه مرارا وتكرارا، ويوفر لها الحماية.
وقد درس فان لِفين في جامعة سنت أندروز الاسكتلندية (المملكة المتحدة)، ومعهد ماكس بلانك للسانيات النفسية بمدينة نايميخن (هولندا)، وكذلك في تلك الدار الخاصة بالحيوانات البرية التي تعاني من اليتم في زامبيا.
ونشر هذا الباحث وزملاؤه العاملون بالدار مقطعهم المصور والدراسة التي أجروها حول هذه الواقعة في دورية "أمريكان جورنال أوف بريماتولوجي" المعنية بالدراسات الخاصة بالثدييات من رتبة الرئيسيات.
ويقول في هذا الشأن إن ذلك المقطع المصور يبدو "الأكثر تفصيلا وثراءً بالمعلومات" من نوعه.
وصوّر فان لِفين وزملاؤه المقطع بعدما اكتشفوا جثة توماس مُمددة قرب سياج على حافة المأوى المُسيّج الفسيح للغاية، الذي يبلغ من المساحة حداً، يصعب معها في كثير من الأحيان رصد قردة الشمبانزي التي تعيش فيه.
ولكن سرعان ما ظهر القردة الأخرى في القطيع، لتكتشف جيفة "توماس" أمام أعين الباحثين، الذين كانوا يراقبون الموقف من على الجانب الآخر من السياج.
سلوك مختلف
وكان من الواضح أن قردة الشمبانزي تلك قد أدركت أن شيئاً ما ليس على ما يرام، وتجمعت قرب "توماس" الممدد على ظهره. غير أن ما أدهش الباحثين أكثر من غيره؛ تمثل في الطريقة التي جلس بها القرد "بان" بهدوء حول جيفة صديقه لفترات طويلة؛ إذ يقول فان لِفين: "لا تفعل قردة الشمبانزي ذلك قط في سياقات أخرى. هناك دائما شيءٌ ما يحدث" فيما بينهما.
ففي المعتاد، تنهمك قردة الشمبانزي في تنظيف؛ إما نفسها أو بعضها البعض، أو في اللهو وتناول الطعام معا، أو حتى في التصايح. كما أنها تتصرف على نحو عدواني في بعض الأحيان.
ولكن في هذه المرة، قَدِمَ 22 من قردة الشمبانزي لإلقاء نظرة على "توماس"؛ ومن بينها تسعة قردة لامسته بلطف.
وكان من المدهش كذلك بالنسبة للباحثين في شؤون الثدييات من رتبة الرئيسيات؛ حقيقة أن القردة لم ترحل على الفور بعدما تفحصت جثة "توماس"، لاسيما في ضوء تزامن اكتشافها لجثته مع موعد إطعامها، وهو الوقت الذي يمكنها فيه سماع أصوات تحضير الطعام من جانب عمال الدار، على الجانب الآخر من المأوى المُسيّج.
وإذا عدنا إلى المقطع المصور، فسنجد أنه بعد أكثر من 17 دقيقة من بدئه؛ لطمت أنثى مُهيمنة من أفراد المجموعة، يُطلق عليها اسم "فَيوليت" جثة "توماس".
ويرى د. فان لِفين إن سلوك "فيوليت" في هذا الشأن لم يكن مثيرا للدهشة بشدة "فقد تكون قد فعلت ذلك من قبل في سياقات أخرى". أو ربما كانت هذه اللطمة، ليست سوى وسيلة منها للاطمئنان على حالة "توماس"، والتعرف على ما إذا كان بمقدوره إصدار أي رد فعل أم لا.
ولكن إذا كانت هناك أسباب محتملة للطمة "فَيوليت"؛ فإن بلورة تفسير لما أقدم عليه "بان" يبدو أكثر صعوبة.
فبحسب ما يقول فان لِفين؛ بدا تفقد "بان" لجثة "توماس" أكثر من مرة، وإبعاده بعنف صغير شمبانزي جريء حاول تحريكها، وكذلك تحركاته حول الجثة "لافتا للنظر ومثيرا للاهتمام وغير معتاد".
وكان إصرار "بان" وحزمه لافتيّن، بشكل خاص، في ضوء أنه ليس الذكر المُهيمن ضمن مجموعة قردة الشمبانزي هذه.
وقبيل نهاية الفيلم، عادت "نويل" لإبداء اهتمامها بجثة "توماس". ويقول فان لِفين في هذا الشأن إن "تنظيف نويل لأسنان (توماس) مثيرٌ للاهتمام بشدة، نظرا إلى أن مثل هذا السلوك البدني الحميمي الطابع لا يحدث قط تقريبا بين قردة الشمبانزي".
ويضيف أن "نويل" فضلت أن تقوم بذلك على أن تحصل على "كثير من الطعام الشهي الذي عُرض عليها من جانب الحراس". وأوضح أن العاملين في الدار كانوا يحاولون تشجيع هذه القردة على الابتعاد عن جثة "توماس" حتى يتسنى لهم نقلها خارج المكان.
التأثر بالموت
ومع أن فان لِفين وزملاءه يقولون إنه لابد من توخي الحذر والحرص عند تفسير سلوك قردة الشمبانزي عقب اكتشافهم جثة القرد "توماس"؛ فإنه كان بوسعهم مقارنة ردود الفعل هذه مع وقائع أخرى، منها ما وقع في الدار نفسها، وشهد نفوق قردة شمبانزي حديثة الولادة.
وقد بدا أن قردة الشمبانزي تتأثر أكثر بنفوق أترابها الأكبر سنا؛ نظرا لأنها أنشأت معها – بمرور الوقت – علاقات أهم وروابط اجتماعية أوثق.
كما يشير المقطع المصور إلى أن القردة تتأثر أكثر بنفوق أصدقائها؛ تماما كما هو الحال مع البشر.
ويقول فان لفِين: "إذا كنا بصدد ملاحظة (سلوك) البشر لا قردة الشمبانزي؛ كنا سنقول إن الأشخاص يتأثرون بفقدان صديق أكثر من فقدان أي شخص آخر، وهو ما يمكن أن تتوقعه من خلال رؤية كيف تصرف أصدقاء (توماس) بعطف وشفقة أكثر مع جيفته"، مقارنة بما فعلته القردة الأخرى، التي لم تكن تربطها به علاقة صداقة.