للماء قداسة ومكانة في الأديان السماوية، خاصة في الحضارة الإسلامية، فمن أشرف وأنبل الأعمال وأكثرها تقرباً من الله هي توفير الماء للمقيمين أو عابري السبيل.
لذلك، المارّ في شوارع القاهرة القديمة، خصوصاً في شارع المعز، الذي كان قلب العاصمة يوماً ما، سيجد مباني ذات طرز معمارية فريدة، عبارة عن وجهات رخامية مزخرفة ومزينة بالآيات القرآنية، وتطُل منها شبابيك من النحاس أو الحديد المصبوب في أشكال زخرفية بديعة، والتى عُرفت باسم "السبيل".
اشتهرت الأسبلة في العصور الماضية، وتحديداً في العصر المملوكي والعثماني، فكان يوجد في كل شارع سبيل أو أكثر، لمد الفقراء من أهل المنطقة بالماء، نظراً لعدم قدرتهم على دفع الأموال لـ"السقا" الذي يوصل الماء إلى المنازل، وري عطش عابري السبيل.
وهناك سبب آخر لبناء السبيل، وهو رغبة البعض في تخليد ذكراهم سواء كانوا من الحكام أو الوزراء أو الوجهاء، لذلك كانوا يطلقون أسماءهم على تلك الأسبلة.
فالأسبلة لم تكن مجرد بناء خيري، فكل سبيل تم بناؤه سواء في العصر المملوكى أو العثماني، يوجد وراءه حكاية وقصة، كما أنه شاهد على تاريخ مضى، وأصبح في الكتب فقط، ولم يبقَ منه بين الناس إلا اسم السبيل فقط، فإذا سألت أي شخص ما هذا البناء سوف يقول: "سبيل فلان الفلاني".
فيما يلي رصد لأهم "الأسبلة" في مصر.
سبيل أم عباس
من أشهر وأجمل أسبلة القاهرة، يوجد في شارع الصليبة، وتم بناؤه على الطراز العثماني عام 1867م، ويمتاز بأن أرضه مفروشة بالرخام، وسقفه منقوش بالذهبية، وشبابيكه من النحاس الأصفر، تتخللها دوائر عليها آيات قرآنية.
أمرت بإنشائه الأميرة "بنبا قادن" والدة خديو مصر "عباس حلمي الأول"، بعد 13 سنة، ترحماً على روحه، ونيلاً لدعوات "العطاش" لابنها الذى قُتل في قصره ببنها، عام 1854م، ويعد أحد آخر سبيلين تم بناؤهما فى القاهرة.
ويمتاز سبيل أم عباس بأنه مزيج بين الطراز المعماري العثماني والأوروبي، بالإضافة إلى حجرة السبيل ثمانية الأضلاع، والتى تعلوها قبة مثمنة، ويرجع الفضل في ذلك التصميم إلى مهندس تركي استعانت به "بنبا قادن"، وكسيَت الواجهة كلها بالرخام الأبيض، وزينت بزخارف نباتية من الطراز الأوروبي"الباروك والركوكو"، بالإضافة إلى كتابة دقيقة بخط النسخ لآيات القرآن في أعلى السبيل بيد "عبد الله زهدي".
سبيل عبد الرحمن كتخدا
يقع في مفترق طرق شارع المعز، وتحديداً في حيّ بين القصرين، يستقبل السبيل القادمين من ناحية جامع الأقمر الفاطمي، والذى أنشأه الأمير عبد الرحمن كتخدا، عام 1744م، أحد الشخصيات الهامة وقت حُكم "علي بك الكبير".
ويذكر أن"كتخدا" كان مُهتما بالحركة المعمارية، لذلك شيد 18 مسجداً، بالإضافة إلى العديد من الأضرحة والأسبلة، والذى يأتي في مقدمتها هذا السبيل تحديداً، الذى يمتاز بثلاث وجهات مطلة على الطريق، وكل واجهة من الثلاث لها فتحات عقودها من الرخام الملون، عليها شبابيك من النحاس الجميل، ويعلو السبيل كُتاب تحيطه مظلات خشبية وحواجز من الخشب المشغول الجميل، وقد نقشت على الحواجز الخشبية كتابات بها اسم المنشئ وتاريخ الإنشاء.
سبيل السلطان مصطفي الثالث
في حي السيدة زينب، شيد السلطان مصطفي خان الثالث بن السلطان أحمد الثالث، سبيلاً على الطراز العثماني ذي الواجهة المقوسة، عام 1758م.
وتبرز في السبيل روعة فن العمارة العثمانية، تحديداً في الزخرفة التي على واجهة السبيل، ونمط القضبان المذهبة للشبابيك، وكسوة الجدران الداخلية، والمدخل المصنوع من البرونز الصلب، بالإضافة إلى اللوحات الخطية، التي تزين أعلى السبيل، والمنقوش عليها أبيات الشعر فى سبعة قصائد، وهي ترجع إلى شاعر مجهول وكلماتها توضح أهمية المياه وتمدح السيبل ومؤسسه، ويُعرف هذا الأمر في عهد الدولة العثمانية.
أما عن القصائد السبع المكتوبة باللغة التركية العثمانية، فهذه أبيات منها:
يخيل للشارب أنه مياه الزنجبيل .. جعل عذوبة مذاقه تماثل مياه السلسبيل
إضاءة القمر وغيرته فى لمعان هذا الطبق الفضي .. مياه تبعث النشوة والخجل فى ينبوع ممهري
سبيل محمد على
أمام مسجد الناصر محمد بن قلاوون ومدرسة الظاهر برقوق بشارع المعز لدين الله الفاطمي، شيد محمد على باشا سبيلاً على روح ابنه إسماعيل باشا، والذى قتل خلال حروب الحبشة في السودان، عام 1822م.
في عام 1828م، تم بناء السبيل، المكسوة واجهته بالرخام المحلى بنقوش وكتابات جميلة، وواجهته مكونة من أربعة أضلاع يغطي كل منها شباك نحاسي مصبوب، بالإضافة إلى النقوش النباتية والآيات القرآنية، ويغلب عليه التأثر بالفن العثماني والأوروبي، خصوصاً في التصميم الداخلي للسبيل.
وفي داخل السبيل، كان الماء يُحفظ في صهريج ضخم تحت الأرض، عُمقه 9 أمتار، ويتسع لـ 455 ألف لتر من الماء، وكانت تُبطن جدرانه بمواد لا تسمح بنفاذ الماء، حتى تظل المياه صالحة للاستخدام أطول فترة مُمكنة.
سبيل خسرو باشا
أقدم سبيل عثماني عرفته مصر، يقع في شارع المعز لدين الله الفاطمي، أمام مجموعة قلاوون، شيده خسرو باشا، عام1535م.
ويغلب على هذا السبيل الطراز المملوكي، فهو يتكون من حجرة مستطيلة بها شباك تسبيل، الأول يطل على شارع المعز في الجهة الجنوبية الغربية، والآخر يطل على الجهة الشمالية الشرقية، حيث إيوان المدرسة الصالحية، الوجهتان بهما زخارف، ويعلوه كُتاب منسجم الشكل حليت أعتاب شبابيكه بالرخام، وأرضيته من الرخام، وسقفه منقوش بالذهب والألوان.
ومنقوش في شريط كتابي أعلى السبيل: "أمر بإنشاء هذا السبيل المبرور اغتنام الثواب والأجور في أيام مولانا الإمام الشريف ظل الله الوريف أفخنكار الأعظم مالك رقاب الأمم، ملك ملوك العرب والعجم، السلطان سليمان خان بن السلطان سليم خان بن السلطان بايزيد حامد بن عثمان خلد الله ملكه وسلطانه وأدام أيامه. منشئ هذا السبيل مولانا الباشا الأعظم والكافل المفخم مدبر مصالح الأمم ناظم مناظم العالم خسرو باشا كافل الديار المصرية والأقطار الحجازية، غفر الله له ولمن دعا له بالمغفرة بمحمد وآله وكان الفراغ من ذلك في شهر جمادى الآخرة سنة اثنان وأربعين وتسعمائة من الهجرة النبوية".
سبيل نفيسة البيضا
أمام مسجد المؤيد شيخ وبجوار باب زويلة، أنشأت السيدة "نفيسة خاتون" معتوقة الأمير على بك الكبير وزوجة الأمير مراد بك، هذا السبيل والكتاب الذى يعلوه، سنة 1796م.
ويمتاز بواجهة نصف دائرية، ويطل على الشارع بثلاثة شبابيك معقودة ومشغولة بزخارف نباتية معدنية، ويختلف هذا السبيل في أن صهريجه لا يوجد أسفله وإنما أسفل مبنى مجاور له.
ونقشت على واجهة السبيل أبيات شعر تمتدح فضائل تلك السيدة، تقول كلماتها:
"سبيلُ سعادةٍ ومرادٌ عزٍ وإقبال لمحسنة رئيسة
يُسرُك منظرٌ وصنع بديع وتَعجبُ من محاسنِه الأنيسة
جري سلساله عذبٌ فرات فكم أحيت به مهجاً بئيسة
نؤرخه سبيل هدى وحسُنَ لوجه الله ما صنعت نفيسة".
سبيل السلطان قايتباي
في شارع شيخون بالقرب من ميدان صلاح الدين بالقلعة، يوجد سبيل من أجمل وأروع الأسبلة المملوكية، وهو سبيل السلطان "قايتباي"، سنة 1479م.
ويميزه الجمع بين المهابة حيث ضخامة البناء، وجمال الفن الواضح في تنوع وتناغم الزخارف، ويعلو السبيل كُتاب لتعليم الأطفال وتحفيظهم القرآن الكريم.
ويعلو شباك السبيل، لوحة كبيرة مربعة من الرخام والحجر الملون مقسمة إلى تسعة أقسام موزعة على ثلاثة مستويات، تحتوي على زخارف نباتية وهندسية محفورة في الحجر والرخام. وهذه الزخارف غير شائعة في المباني المملوكية، وتشبه زخارف أغلفة المخطوطات.
سبيل أم محمد على الصغير
خلف مسجد الفتح بميدان رمسيس بالقاهرة، يقع سبيل وكُتاب "أم محمد علي الصغير" الذي أمرت ببنائه السيدة "زيبا قادرين" سنة 1867م، صدقة على روح ابنها محمد علي، ابن محمد علي باشا والي مصر.
وواجهة السبيل عبارة عن نصف دائرة مليئة بالنقوش واللوحات الرخامية والنحاسية، ويعلوه كُتاب، كما نقش عليه دعاء لمحمد علي الصغير: "اللهم يا ربنا ألهم روح محمد علي، الرشاد والسداد واقبل منه كل أعمال الخير التي قام بها وعجل له بموفور الجزاء الأوفى".