تستثير الأعمال الفنية، والأدبية، كوامن النفس البشرية، إذ تبرع بعضها في ممارسة مهمة إيقاظ براكين الحنين الخامدة، لتتناسل بعدئذ ذكريات الماضي معها تباعاً.
ولا غرو بأن تصاب ذاكرة البشر بوعكات الحنين. إما لمدن لا تشبه الأخرى، أو حتى للحظات مخضبة بالاخضرار.
والشعراء والفنانون ومنتجو القيم الإبداعية ليسوا هم الآخرون بمعزل عن تلك الذكريات المتلاطمة التي تفيض بها الأفئدة، فلا عاصم من الحنين.
إذ كان لافتاً ما صاغته الفنانة السعودية دانية الصالح، في عملها المسمى: إعادة، بداية، تشويش، الذي تناول انعكاس الذكريات على حياة الإنسان، ونسيان الوجوه، وتلاشي التفاصيل والألوان، إلى جانب محاولات الاستذكار والتشويه التي تطالها مع مضي الوقت.
تقدم الفنانة دانية عبر عملها محاولة عملية لفهم تشفير الذكريات، وكيف تتبلور، محاولة تفكيكها، فيما تجمع بعض الحقائق وتعيد ترتيبها، مستمدة هذا الفهم للذاكرة من سيغموند فرويد، عالم النفس الشهير، والفيلسوف أرسطو.
إذ تعامل هذان الرجلان مع عنصر الذاكرة على أنه قابل للتلف، وهو الأمر الذي اهتمت الفنانة الصالح في محاولة كشفه وتسليط الضوء عليه عبر عملها: إعادة، بداية، تشويش.
واستخدمت الفنانة صوراً عائلية لذكرياتها الشخصية، كما حاولت توظيف ما يشبه المرشحات الفنية داخل العمل، عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي وآلاف الصور المختلفة.
ويمثل العمل بداية تُحفظ على جدران الذاكرة بنفس الطريقة التي يحتَفظ بها العقل بالانطباعات البصرية والسمعية عن الماضي بل وأحيانًا حتى الجسد، في انعكاس مفاهيمي لطبيعة الذكريات.
وبالتقصي خلف هذا العمل في محاولة لسبر أغواره، تبيّن أن الفنانة تحاول من خلال عملها طرح التساؤل حول كيفية بناء الذكرى، عبر تركيزها على ما هو غائب، إلى جانب الثغرات الحتمية في الحياة.
وتقول الفنانة الصالح في حديثها إلى موقع أخبار 24، إن صياغة هذا العمل الفني جاءت بعد أشهر عدة، وتضيف: يتطرق العمل إلى ميكانيكية الذاكرة، والاعتماد عليها، ليطرح تساؤلات على غرار هل نحن نعتمد على الذاكرة؟ وهل هي تخوننا؟ أو بالإمكان الاعتماد عليها.
وتلفت إلى أن الذاكرة ذات دور كبير في حياتنا، إذ نسترجع عبرها الذكريات، ونذهب بها نحو أماكن قد تسعدنا ونجد فيها راحتنا النفسية، حسب تعبيرها.
تقول الصالح إنها استخدمت في هذا العمل صورا لذكريات عائلية مألوفة، توجد في أي منزل، لكنها أضفت عليها مسحة تقنية عبر خوارزميات الذكاء الاصطناعي، لتخلق حالة من التشويش.
فيما تعد خوابي الذاكرة وأزقة النسيان موارد أفكار ملهمة لبعض المبدعين وموطنا خصبا للفنان والشاعر أيضاً، إذ تفرض الذكريات حضورها في أعمالهم، ومؤلفاتهم، فمثلما حدث مع الرسامة الصالح كان لشاعرين آخرين رأي آخر في الذكريات التي تنكأ قرائحهم على الأرجح.
ففي هذا السياق يقول الأديب البحريني الشهير، قاسم حداد، في قصيدته: إن الماضي الذي ينتصر علينا لا يزال يغلب النحوَ والصرف، ويستفرد باللغة في غفلة قلوبنا. يحضر ويحتضر ويصير مستقبلاً.
ويعتقد حداد أن للماضي قدرة على تطويع المفردة، بل حتى الحضور في المستقبل.
ولا يختلف عنه الشاعر الفلسطيني الشهير، محمود درويش بالنكوص إلى مدائن الماضي في أعماله، إذ ينشد في شعره، قائلاً: أيها الماضي لا تغيرنا كلما ابتعدنا عنك.
هذان شاعران عبرا في قصائدهما عن الحنين للماضي وذكرياته، باختلاف تجاربهما الإنسانية، غير أنهما أجمعا على إرباك تلك الذكريات لقريحة الشاعر، وهو الأمر الذي استطاعت الصالح توظيفه عبر عملها "إعادة، بداية، تشويش".