منذ تشييده، أصبح سوق الموسيقى التاريخي في حي العود الشعبي بالرياض، ملاذاً يقصده كبار فناني الزمن الجميل، والهوّاة، وأولئك الذين شغفتهم الفنون والمعازف حباً، إذ يولون وجوههم شطره، بصفته قبلة فنية ومتنفساً لهم، إما للالتقاء بزملاء المهنة "أرباب النغم"، أو لشراء الآلات الموسيقية، وفي أحيان عدة يقصده البعض من أجل تعلّم العزف على آلة العود الشهيرة.

تفتض أوتار السوق الموسيقي الذي بات متنفساً لمتذوقي الفنون، أحشاء صمت الأحياء الشعبية المجاورة له، فيما تدعوك جغرافيته إلى التأمل في أسراره، فمن آياته، مجاورته لأشهر مقابر العاصمة الرياض المعروفة " بالعود"، إذ لا تكاد تتجاوز المدة الزمنية التي تفصل بينهما نحو دقائق معدودة، في صورة لافتة لتناقض أمزجة الوجود، التي تطرح تساؤلاً مفاده: كيف لمواطن الفرح أن تجاور أسوار الملاذ الأخير.

المسافة الزمنية تعيد التساؤل ذاته، كيف تلتئم صور الموت والحياة في مكان واحد. فالصورة الأولى تتمثل في مقبرة خُصصت لدفن الأموات، أما المفارقة الثانية فسوق للموسيقى، يهفو إليه محبو الفرح، ويضم جسده باعة ومتجولين وهواة، تختلف ألوانهم ومشاربهم .

هذان المشهدان؛ "مواطن الفرح – أسوار العدم"، يندر أن يلتقيا معاً في المحيط ذاته، غير أن حي العود الشهير في العاصمة الرياض ضم هذه المفارقة؛ التي دعت لكتابة هذا التقرير، والذي قام على أساس السؤال والبحث عن إجابته، وليس لنواحٍ أخرى .

واتصالاً بما سبق، فقد التقت "أخبار 24" بعدد من باعة السوق التاريخي ليتحدثوا عما في أذهانهم من تفاصيل تسكن ذاكرة المكان المتخم بالنغم، ومن هذه الزاوية، يؤكد صلاح الحربي - وهو مالك متجر قضى 35 سنة من عمره في السوق – شعوره براحة نفسية في هذا المكان الذي يتجاوز عمره أكثر من خمسين عاما.

ولم يخش الحربي من إبداء تمنيه على وزارة الثقافة، ممثلة في "هيئة الموسيقى"، للاهتمام بهذا السوق التاريخي، واستحداث تحسينات تُبقي عليه كأحد رموز العاصمة، لوضع حدٍّ للتسرب الذي أصبح يعيشه كثير من تجار السوق على أماكن متفرقة في أنحاء العاصمة.

وبدا الرجل – أي الحربي – فرحاً بحالة الانفتاح التي تشهدها البلاد، واستذكر بعضاً من الماضي، وقال: "في السابق كان هناك حالة تحفظ تجاه الموسيقى، بيد أن اليوم أصبح الأمر مختلفاً مع النهضة التي تعيشها المملكة، عانينا كثيراً في السابق، لكنها أيامٌ انجلت وذهبت إلى غير رجعة".

وعلى عتبات مدخل السوق، جاء أحمد الهويشل، أحد ممارسي البيع والشراء في السوق، والذي قلّب بعضاً من ذكرياته، وعدّد من التقاهم في أروقة هذا المكان، كالفنان الراحل بشير حمد شنان، الذي كان أبرز أصوات الفن الشعبي في السعودية والخليج في فترةٍ تاريخية مضت، وحمد الطيار، وطاهر الأحسائي، وفهد عبد المحسن، وفهد بن سعيد الملقب بـ"وحيد الجزيرة".

وبدأ الرجل يروي ذكرياته مع السوق الذي قضى وقتاً طويلاً فيه، مسترجعاً حكاياه مع هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي روى إحداها، وقال: "في وقت من الأوقات حضرت إلى السوق من أجل تغيير أوتار آلة العود الخاص بي، فوجئت حينها بعضو في جهاز الهيئة، هم باستيقافي لتوجيه النصح بترك ما أسماه (المعازف)، وثمّن وقتها سعر آلتي الموسيقية بـ 500 ريال، فاشتراها مني حتى أبتعد عن هذه الآلة".

وبالعودة إلى جسد السوق الذي كان مقصداً لكبار مطربي الزمن الجميل، فإن آلة العود سجلت إقبالاً كبيراً من قبل الزبائن، على خلاف الآلات الأخرى، إذ تتراوح أسعار تلك الأعواد المصرية خاصة "سيد عفيفي"، ما بين 200 إلى 500 ريال، ويقبل عليها البعض للتعليم في بادئ الأمر، فيما تصل بعض الأنواع إلى 5000 ريال، ويشتريها المحترفون تحديداً.

وللعلم فهناك أنواع مختلفة من آلات العود مثل "الكويتي"، ويصل سعره إلى 5 آلاف ريال، و"البحريني" إذ تتراوح أسعاره من 500 ريال حتى 2000 ريال، بجانب "التركي"، الذي يصل حتى 15 ألف ريال، فيما يعزو الباعة ارتفاع أسعار الأعواد إلى جملة عوامل، تتلخص في جودة الخشب المستخدم في صناعة الآلة، وقدرتها الفنية، إلى جانب درجاتها المتفاوتة في النغم.